العدد 3417 - السبت 14 يناير 2012م الموافق 20 صفر 1433هـ

عشقت الصحافة حين خاطبني جدي: «منفلوطي... اترك الصحيفة حان وقت الطعام»!

المفكر والكاتب والأديب وليد نويهض يفتح لـ «الوسط» حديث الذكريات (1-6)

وليد نويهض يفتح لـ «الوسط» حديث الذكريات-تصوير:محمد المخرق
وليد نويهض يفتح لـ «الوسط» حديث الذكريات-تصوير:محمد المخرق

ودعت صحيفة «الوسط» الأسبوع الماضي مدير التحرير السابق المفكر الأستاذ وليد نويهض، وقبل مغادرته البحرين، التقته «الوسط» وتحدثت معه بداية عن صورة الصحافي الشاب في بيروت آنذاك، وقبلها صورة الطفل النهم للقراءة... وسألته: ماذا كانت تعني لك الصحافة منذ مقولة جدك «منفلوطي... حان وقت الطعام»؟

- فعلاً موضوع الصحافة كان يشكل هاجساً يومياً، أولاً: كنت قارئ صحف يومية، ومتابعاً للأخبار اليومية وأيضاً كنت منخرطاً لحد كبير في العمل السياسي، فالصحافة والسياسة كانتا جزءاً لا يتجزأ من حياتي اليومية، ولكن كيف أدخل العالم الصحافي وهذا كان هو السؤال الكبير.

وبدأت في كتابة مقالات كنت أنشرها في بعض الصحف، وتحديداً في ملحق صحيفة «النهار» اليومية وكنت أرسل بعض التعليقات التي كانت تنشر في بريد القراء، بعدها عملت في الحقل التعليمي ودخلت الجامعة وبدأت التدريس، ودرّست مادة اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ لمدة سنة كاملة لكنني اكتشفت في نهاية السنة انني فاشل في هذه المهمة ولا أستطيع الاستمرار في القطاع التعليمي، لأسباب كثيرة وهي إن شخصيتي ليست مؤهلة للقيام بلعب دور المعلم أو الأستاذ في المدرسة، فبعدها بدأت أفكر، كيف اعمل في قطاع الصحافة.

هنا كانت البداية

ومن أين كانت البداية الفعلية؟

- كان هناك صديق حميم وجار ذهبت لزيارته وعرضت عليه مشكلتي فقال لي إن هناك صحيفة أسبوعية ستصدر قريباً، فما رأيك أن اتصل بهم، وقلت له لا أعلم من الصحافة شيئاً، فقال لا تخف هم سيقومون بتدريبك وتعليمك. فتوجهت للمكتب وتم قبولي وبدأت أولاً في قسم التصحيح وكان آنذاك من الأعمال الشاقة والصعبة، فالمصحح لا يعمل في المكتب وإنما في المطبعة.

وبالتالي كنت أتوجه إلى المطبعة لتحرير المادة مما أعطاني فكرة واسعة عن: كيفية إنتاج الصحيفة من البداية والتأسيس، وثانياً طلبوا مني أن أعمل في الأرشيف وكانت تلك خطوة جيدة ومهمة جداً، ثم طلبوا مني أن أقوم بمهمة سكرتير للتحرير وأسهر في الليل لمتابعة أعمال الصحيفة. وهذا ما حصل، وأتذكر أن المقال الأول الذي نشر بوضوح باسمي الكامل، وكان عبارة عن قراءة في كتاب «نقد فكر المقاومة» الذي ألفه المفكر الياس مرقص، ونشر باسمي وبعدها قمت بكتابة مقال أسبوعي.

«الثورة الطبقية» باكورة التأليف في حياتي

وانتقلت بعد ذلك إلى تأليف كتاب بعنوان «الثورة الطبقية» وكان أول محاولة في تأليف كتاب في حياتي. وسبب كتابة هذا الكتاب أننا كنا نريد تغيير الكثير من الأمور السياسية والاجتماعية في المجتمع. ونشر هذا الكتاب في سلسلة حلقات على امتداد ما يقرب السنة وتحدثت فيه عن النظرية الثورية في كل المراحل بدءاً من القرن الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى فترة السبعينات من القرن العشرين، حيث كانت ثورة فيتنام وثورة لاوس وكان العالم كله يضج في حركات الكفاح المسلح ويسبح في غمار الثورات آنذاك.

ولكن في نهاية السنة اختلفت مع إدارة التحرير وخرجت من الصحيفة وبدأت أبحث عن عمل آخر، اشتغلت بعدها في وكالة اقتصادية يومية تدعى «آورينت برس» ثم انتقلت للعمل الصحافي في مجلة «الهدف» ثم في «الحرية» إلى أن استقر بي الحال في صحيفة «السفير» التي تأسست في العام 1974، وكنت هناك من الطلائع مع المفكر والكاتب طلال سلمان.

وكانت هناك مجموعة من النخبة العربية المعروفة في قطاع الصحافة وأيضاً في قطاع الكتابة. وكان دخولي إلى «السفير» في العام 1974 بداية مهمة جداً، لأنها فتحت لي الآفاق في العمل الصحافي اليومي، وانطلقنا بعد ذلك، وهذه كانت بداية التجربة.

بيروت واحة الشرق

كيف نقرأ صورة بيروت في تلك الفترة خصوصاً أنها كانت في أوج الحركة الثقافية، وازدهار حركة المطابع وظهور مجموعة من الصحف وازدهار العمل السياسي والحزبي؟

- في الحقيقة كانت بيروت في الستينات ومطلع السبعينات تعتبر واحة الدول العربية بل واحة الشرق، فكان كل مثقف يريد أن يطبع ديوانه يتوجه إلى بيروت لطباعته، وكان كل روائي يريد أن يطبع روايته يتوجه لها، إضافة إلى أن بيروت تحولت إلى ملجأ سياسي كبير، فاحتضنت كل اللاجئين السياسيين من كل الأقطار العربية، من تونس ومصر والبحرين وليبيا واليمن والعراق والسودان. والكثير من المثقفين العرب وجدوا في بيروت ضالتهم، باعتبارها كانت واحة تجمع الكثير من الروافد.

وفعلاً عشنا في تلك المرحلة أفضل الفترات. وآنذاك الثورة الفلسطينية بدأت تنتقل إلى بيروت، والثورة الفلسطينية صحيح أنها جلبت معها الفوضى السياسية للبنان، ولم تقرأ جيداً الخريطة اللبنانية وفشلت ربما على مستوى الكفاح المسلح ولكنها نجحت بالرغم من ذلك في بعض المسائل التي لا بد من الاعتراف بفائدتها، فالثورة الفلسطينية فتحت لنا المجال الرحب للتفكير على مستوى القضايا العربية والدولية.

وبالتالي كانت الثورة الفلسطينية المحرض الفعلي لنا كشريحة من المثقفين الشباب للتفكير في بعض القضايا المهمة في فيتنام والصين والاتحاد السوفياتي وأوروبا، وفعلاً لعبت الثورة الدور الرئيس للتحريض على القراءة والحاجة إلى المعرفة والبحث عن الحقيقة وكانت تلك المسائل من النقاط المهمة التي ساهمت الفصائل الفلسطينية في إثارتها، والسبب في ذلك أن الفصائل الفلسطينية كانت متعددة التوجهات والأيديولوجيات من الماركسية إلى الإخوان المسلمين والقوميين والبعثيين.

وكان هذا الضجيج الفكري الذي ساهم إلى حدٍ ما في الفوضى السياسية، ولكنه ساهم في المقابل في تشجيعنا على بذل المزيد من الجهد في القراءة والكتابة والبحث والتدقيق في المسائل، واستمر هذا الوضع إلى أن انفجرت الحرب الأهلية في لبنان في أبريل/نيسان من العام 1975، وهنا كانت الكارثة!

دخول الفلسطينيين على خط السياسة اللبنانية

طالما نتحدث عن دخول الفلسطينيين على خط السياسة اللبنانية، فكيف تقرأ الدور الفلسطيني في تلك المرحلة خصوصاً أنك جمعتك علاقة مع كبار المنظرين والقيادات في هذه الحركة منهم أبو عمار (ياسر عرفات) وآخرون؟

- صحيح أن الثورة الفلسطينية رغم كل تلك الفوضى بسبب العفوية والطفولية وعدم المعرفة بالموازين الدولية والنقاط الإقليمية، ورغم وجود العديد من نقاط الضعف في قراءة الاستراتيجيات لكنها طرحت العديد من الأسئلة والاثارات على مستوى الحياة العامة، فقد ساهمت الفصائل الفلسطينية في إثارة العقل وطرحت الكثير من الأسئلة الكبيرة والمهمة علينا.

وكانت هناك العديد من النقاط المدرجة على جدول التفكير والتأمل: منها الدور اللبناني في العالم العربي، والعدوان الإسرائيلي في الجنوب وعلاقة لبنان بسورية ومفهوم الفكر العربي والإسلام وقضايا الديمقراطية والكفاح المسلح لكن هناك مسألة مهمة وهي أن الثورة الفلسطينية لم تنتبه للمسألة الطائفية، وأخطأت كثيراً حين قرأت الواقع اللبناني من دون استطلاع لتلك الحيثيات، فحصل ما حصل. ولكن في تلك الفترة كان هناك يومياً ما يشبه المؤتمرات، والندوات وانتعشت الصحف والمجلات وغيرها وخصوصاً أن الثورة الفلسطينية في تلك الفترة استقطبت النخبة العربية التي تتوق إلى نوع من الحرية والتحرير وحلم العودة إلى فلسطين. وجاءت هذه النخبة إلى بيروت لتكون مشاركة في هذا الإطار وهنا تم التعرف على القيادات الفلسطينية، وكنت على معرفة بجورج حبش ونايف حواتمه وخصوصاً أننا كنا حلفاء (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنظمة العمل الاجتماعي)، وهاتان المنظمتان كانتا تشرفان على إصدار مجلة «الحرية» وكانت هذه المجلة مهمة جداً في أيامها وكنت أنا من الكتاب الأسبوعيين في تلك المجلة وكنا على علاقة قوية بهذا الفصيل (الجبهة الديمقراطية).

ولكن ماذا عن أبو عمار؟

- بعد ذلك انتقلت العلاقة إلى حركة «فتح»، لأننا طرحنا على أنفسنا السؤال الكبير: إذا أردنا أن نقيم علاقة قوية ومؤثرة فهل نقيمها مع فصيل ضعيف أم مع قوة أساسية تعكس حجم الشعب الفلسطيني وتطلعاته، فتوجهنا لـ «فتح»، وأقمنا علاقات جداً جيدة مع أبو إياد وأبو جهاد وأبو عمار. وكانت تلك العلاقات عموماً هي علاقات تنسيقية وتحديداً حين كان الوضع الفلسطيني يتعرض لضغوط عربية، فكان الجانب اللبناني يلعب دور الحافز لردع الضغط على الثورة الفلسطينية.

لقد شكلنا نحن الحصن والدرع الذي كانت تتخذه الثورة الفلسطينية للانطلاق في العمل وتطورت العلاقة جداً في الفترة الأخيرة التي سبقت الاجتياح الإسرائيلي. ولأن ظروف البلد كانت منهارة، وبدأت تدخل في متاهات ومشاكل طائفية أدت إلى ما أدت إليه من مشكلات انعكست سلباً على منظمة التحرير الفلسطينية وانتهت في الأخير بطردهم من لبنان.

أما عن العلاقة الخاصة مع القيادات فيمكن وضعها في إطارين: فهناك الإطار السياسي العام وهناك الإطار الشخصي وكانت العلاقات أحياناً تتنافر بين السياسة العامة والعلاقة الشخصية. ورغم كل الصعاب استمرت العلاقات الشخصية ولكن ضمن إطار نقدي، فعندما كانت تخطأ الثورة كنا نحاول أن نزيل هذه الأخطاء ومعالجتها، ولكن للأسف الشديد لم ننجح في هذه المهمة، فتراكم الأخطاء أدى إلى الفوضى التي لم يعد بالإمكان السيطرة عليها، فانتهت المسائل إلى نوعٍ من الجفاء والجفاف ولكن ليس الانقطاع، وتحديدا بعد العام 1982 عندما خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان.


«منفلوطي... حان وقت الطعام»...

 

آنذاك كان الطفل في الخمسينات من القرن الماضي لا يعرف من هو المنفلوطي. فالطفل المنشغل في ادعاء القراءة كان يحمل صحيفة «الأنباء» وهي أسبوعية ناطقة باسم الحزب التقدمي الاشتراكي. الصحف آنذاك كانت ضخمة (8 أعمدة إلى اليمين و8 إلى اليسار) وثقيلة على طفل صغير لم يبلغ الثامنة من عمره.

الطفل كان يصر على ادعاء مواصلة القراءة مبدياً عدم اهتمامه بالطعام وسط تكرار نداء جده بأن موعد الأكل حان. «منفلوطي. اترك الصحيفة وتعال إلى الغداء». كان هذا أول الكلام في رحلة الكتابة. من هو المنفلوطي؟ سؤال بدأ يحث الطفل على معرفة جوابه. لا بد أن يكون من الكتاب المهمين واستخدامه للسخرية هو دليل على تميزه.

وليد نويهض

العدد 3417 - السبت 14 يناير 2012م الموافق 20 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:13 ص

      الأستاذ الكبير وليد نويهض

      لا أعرفك بشكل شخصي، ولم أرك إلا من خلال صورتك في جريدة الوسط، وأتفق مع بعض أفكارك ولا أتفق مع كثير منها إلا أنني أحترمك وأقر بأنك مدرس بارع - ليس في اللغة العربية ولا الجغرافيا ولا التاريخ- إنما في نقل المفاهيم السياسية ورفع مستوى الوعي والإدراك لي على الأقل، ولآلاف البحرينيين عموماً، لقد ساهمت من خلال شمعاتك العشر في هذا البلد في رفع مستوى الصحافة والخروج على التقاليد فلازلت أتذكر كيف أن الصفحة الأولى للعدد الأول يدل على استقلالية لم نعهدها من قبل.. شكرا لك، ولا تقطعنا، لك كل الود.

      ابراهيم

    • زائر 3 | 12:04 ص

      شكراً لك يا أستاذ وليد

      منفلوطي نسبة إلى مصطفى لطفي المنفلوطي
      انفرد بأسلوب نقي في مقالاته وكتبه، له شعر جيد فيه رقة وعذوبة، تعلم في الأزهر واشتغل في الصحافة والأدب له كتب منها النظرات والعبرات

    • زائر 2 | 11:38 م

      لك جزيل الشكر

      فعلا انت رمز الى الثقافه ياوليد ولك جزيل الشكر والعرفان وكم نتمنى ان تبقلاى هنا في البحرين معنا بين اهلك ونتمنى لك دوام الصحه والعافيه ومزيد من الرقي والارتقاء وبصماتك باتت واضحه امام الجميع وكل التوفيق والنجاح انشاء الله على مهنيتك التي كرست نفسك من اجل كلمة حق

اقرأ ايضاً