دخول سورية على خط الزلزال العربي الذي يضرب المنطقة من المحيط إلى الخليج أعاد خلط الأوراق وبدأ يضغط باتجاه مضاد لتلك التفسيرات المتسرعة التي قرأت الاحتجاجات والانتفاضات في تونس ومصر من منظار أيديولوجي حاولت إيران ترويجه واستثماره في إطار ضيق من التفكير. فالقيادة السياسية في طهران حاولت منذ ثلاثة أشهر تقريباً مصادرة المتغيرات وسعت إلى نشر تحليلات تبيَّن لاحقاً أنها لا تقارب الواقع. الكلام عن «شرق أوسط إسلامي» يبدو في الشكل مجرد ظاهرة صوتية مؤقتة بينما المضمون بدأ يتكشف عن احتمالات مغايرة لتلك الخريطة الجديدة. والكلام عن تأثر الانتفاضات العربية بالثورة الإسلامية الإيرانية أخذ ينقشع عن واقع مغاير لكل تلك التوهمات التي أنتجتها مخيلة الرئيس محمود أحمدي نجاد.
الوقائع الميدانية تؤشر إلى ارتسام هياكل وخرائط وتوجهات لا تتوافق بالضرورة مع أحلام الرئيس الإيراني الذي يعاني بدوره من احتجاجات أهلية دائمة لم تتوقف تموجاتها الشعبية منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية التي اتصفت بعدم النزاهة والشفافية. فالرئيس أحمدي نجاد متهم بالتزوير وأنه أخذ موقعه بالغصب والعنوة ومنع قوى الاعتراض من النزول إلى الشارع دفاعاً عن حق.
هذا الأمر لم يمنع الرئيس الإيراني المشكوك بولايته من الاستمرار في سياسة إطلاق الصواريخ الأيديولوجية بقصد حرف الأنظار عن مشكلة عسكرة النظام من خلال التشجيع على تصدير الأزمة إلى المحيط الجواري والأقطار القريبة والبعيدة، مستفيداً من ضعف منظومة العلاقات الإقليمية وترهلها البنيوي.
بسبب هذه الحاجة الشخصية الناجمة عن التأزم الداخلي لجأ أحمدي نجاد إلى قنوات أيديولوجية تلبي تصورات ذهنية متخيلة وتنسج توقعات هي أقرب إلى الأحلام.
لم يقتصر مشروع التضخيم على الرئيس الإيراني بل ساعدته الكثير من القوى والأجهزة على نشر فرضيات تبشر بخريطة جديدة تكون قريبة في هيئتها وهيكلها من النموذج الذي قررت قيادة طهران اختياره ليكون مناسباً لتلك التحولات التي بدأت تشهدها المنطقة بعد أن أسقط الزلزال العربي رأس النظام التونسي ثم المصري. حتى تلك الفترة كان بإمكان أحمدي نجاد مدعوماً من الحلقة القريبة منه أن يتباهى بالمعجزات والخوارق التي بدأت ترسل إشارات بقرب ظهور تحولات دراماتيكية ستغير وجه «الشرق الأوسط» وتعيد ترتيب خريطة وفق هياكل تنظيمية تقارب تصوراته ومخيلته.
هذه التوجهات كانت بحاجة إلى صدمة حتى تتوقف عند حدها وتمتنع عن الاسترسال في الإسقاطات التي بالغت في الاستنتاجات والمراهنات إلى درجة استنساخ الخرافة وتوليدها بوصفها حقيقية أزلية لا يجوز المساس بقدسيتها.
الصدمة الأولى جاءت من جماهيرية الديكتاتور الذي يتمتع بعلاقة ملتبسة مع قيادة طهران السياسية. فالعقيد الليبي صديق وخصم فهو يجمع التحالف إلى جانب التنافس الأيديولوجي في إطلاق البالونات الحرارية والشعارات البراقة في وقت يمد الجسور والقنوات تحت الأرض مع عواصم القرار. هذه العلاقة الملتبسة بين طرابلس وطهران لم تحرج قيادة أحمدي نجاد حين وقع العقيد الليبي في مصيدة التغيير وأخذ بمواجهة انتفاضة شعبية عفوية وعنيفة، إذ كان بإمكانه التنصل من تلك الازدواجية والهرب إلى الأمام اعتماداً على الحلفاء والأعوان الذين انقسموا بين مؤيد للديكتاتور ومعارض له. وانتهى الأمر بالسكوت المضمر والمجمل والمفتوح على تفسيرات غامضة تشبه في آلياتها السياسية تلك العلاقة التقليدية الملتبسة بين إيران وليبيا.
الصدمة الثانية جاءت من اليمن غير السعيد الذي يتمتع بعلاقات تقليدية غامضة مع إيران. فالرئيس اليمني علي عبدالله صالح اشتهر بعدم وضوح اتصالاته بالقيادة السياسية في طهران بسبب ضغوط المتغيرات الإقليمية التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فهو مثلاً كان إلى جانب العراق خلال حربه مع إيران ما أفسح له مجال الدخول في منظومة مجلس التعاون العربي. وهو وقف إلى جانب صدام حسين خلال «أزمة الكويت» ما أدى إلى إخراجه من منظومة الدفاع العربية الإقليمية. وهو تقارب في موقفه مع إيران خلال الحرب الأميركية لاحتلال العراق ثم ابتعد عنها حين بدأ يواجه حركة الحوثيين في صعدة المدعومة من أحمدي نجاد. كل هذه المتخالفات ساهمت في تلوين لوحة غير واضحة ما جعل العلاقة بين صنعاء وطهران مشدودة الأوتار ومرتبكة وغير مستقرة. وأدى هذا الغموض إلى تشجيع أحمدي نجاد على السكوت والتهرب معتمداً على سياسة مزدوجة تجمع بين دعم التغيير وانتظار النتائج التي قد لا تكون سعيدة على الإطلاق.
الصدمة الثالثة كانت الأقوى لكونها جاءت من أهل البيت ولا يمكن تجاهلها أو التهرب منها كما حصل في ليبيا واليمن. دخول سورية على خط الزلزال العربي خلط أوراق اللعبة وكشف الكثير من تلك الخيوط الأيديولوجية والتصريحات البخارية والقراءات المتسرعة والمغالية في استنتاجاتها. دمشق بالنسبة لطهران حليف تقليدي واستراتيجي وهي صديق دائم في السراء والضراء، وهي الممر والمعبر والموقع والمخفر الأمامي، وهي جزء لا يتجزأ من خريطة «الشرق الأوسط الجديد». وبحكم هذه العلاقة المميزة والممتازة بين دمشق وطهران كان لابد من توصيف الاحتجاجات السورية وتبويبها تحت عناوين مغايرة لتلك الإسقاطات والتوهمات التي نسجتها مخيلة أحمدي نجاد. الكلام مثلاً عن معسكر «كامب ديفيد» وتقوضه أمام معسكر الممانعة أصبح عملة مزيفة غير قابلة للتداول. والكلام عن «شرق أوسط إسلامي» بدأ يتشكل في جوار وبالضد من «شرق أوسط أميركي» بات يحتاج إلى أدلة دامغة تؤكد صحته أو شرعيته.
الصدمة السورية كانت قوية وهي لاشك تعتبر فاعلة موضعياً باعتبار أن دمشق محصنة إقليمياً لكونها تلعب دوراً في ملفات ثلاثة في الساحات العراقية واللبنانية والفلسطينية. وهذا المتغير الجغرافي في مسار الانتفاضات والاحتجاجات والارتدادات العربية أربك قيادة أحمدي نجاد وعطل عليها الاستمرار في سياسة الاستثمار والتوظيف وإطلاق المشروعات الوهمية التي تتخيلها عقليات تبالغ في نسج تصورات لا صلة لها بالواقع وقاصرة في فهم خصوصيات المنطقة وتعقيداتها التي يصعب اختصارها بخطابات فضفاضة.
دخول سورية على خط الزلزال العربي وضع حداً لتلك التفسيرات المتسرعة التي قرأت المتحولات في المنطقة في سياق منظومة أيديولوجية جاهزة تخدم تصورات نمطية مؤقتة من دون أخذ الحيطة والحذر من احتمال حصول صدمات غير محسوبة قد تؤدي إلى تدوير الزوايا وتربيع الدوائر. وهذا بالضبط ما حصل في دمشق وغير مستبعد أن يتكرر في طهران التي تصنف تقليدياً من البلدان القريبة جداً من الفالق الزلزالي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد -3130 - السبت 02 أبريل 2011م الموافق 27 ربيع الثاني 1432هـ