يحلل بعض المثقفين الظواهر الاجتماعية من منطلق مثالي، حيث يربطون الأحداث وكأنها أحداث عابرة ومفروضة عليها أو أحداث مبرمجة ذات طابع معلب تخضع لإرادة قوة أخرى لعبت في هذا الكيان وسببت الانتفاضات الجماهيرية. ولذلك ما حدث في الوطن العربي من ثورات غيرت مسار الأنظمة وهزت كيانها أثارت الشعوب العربية والأنظمة، حيث دعمت الشعوب العربية ووقفت بجانب التغيير بعد عقود طويلة من الذل والهوان، بينما الأنظمة وقفت في موقع الدفاع محاولة وقف هذا الطوفان الذي لا يعرفون نهايته وأين سيتوقف.
وبهذا انطلقت نظريات عديدة تدعم بعض السيناريوهات لدى بعض المثقفين لتأكيد أن ما حدث مخططٌ امبريالي يدعم نظرية «الشرق الأوسط الجديد» التي فشلت ولم تلق ترحيباً على صعيد الواقع، وجاءت هذه الثورات لإكمال هذا الدور.
بينما ردّد آخرون سيناريو آخر من أن هذه الثورات جاءت بتخطيط قوى إسلامية بشتى تياراتها من حركة إخوان مسلمين وسلفيين وحركات شيعية مناصرة لحزب الله كما رددت في القنوات الفضائية تحت مظلة الصحوة الإسلامية.
وهنا نتساءل: هل كلا الرأيين يعبّران عن حقيقة موضوعية منفصلة عن حركة الصراع الدائرة في المجتمع وارتباطها بالعوامل الاقتصادية والسياسية؟ لا أعتقد ذلك، فالشرارة الأولى التي انطلقت على يد التونسي محمد البوعزيزي في مدينة بوزيد التونسية، كانت تعبيراً عن رفض الظلم الذي عانى منه البوعزيزي عندما سلبوا منه عربته، التي تمثل له أداة لكسب الرزق بالنسبة لعائلته وإخوته الصغار الذين يعولهم، فاضطر لحرق نفسه، ما يعني إغلاق كل الأبواب في وجهه ووصول نفسيته إلى حالة الصفر، فتعاطفت الجماهير مع هذا الحدث وتحوّلت حركة الجماهير من مطالب اجتماعية إلى مطالب اقتصادية ومنها إلى مطالب سياسية، ومن ثم إلى تغيير النظام.
إن تأزم الوضع الاقتصادي في الوطن العربي من ارتفاع معدل البطالة وأجور متدنية وارتفاع معدل الأسعار وغياب الرقابة وتدني مستوى المعيشة وسيطرة تجار المافيا العربية على السوق والعقار، وتجارة البلاد والسياحة، أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم مع قلة الموارد الطبيعية واحتكارها من قبل الأقليات العربية وغياب الخطط الاقتصادية وانعدام التكامل الاقتصادي على مستوى الوطن العربي، كل ذلك أدى إلى زيادة الهجرة للدول الغربية وانتشار الظواهر الاجتماعية مثل السرقة والمخدرات والدعارة.
وعلى الصعيد السياسي استنفد المثقفون العرب وحركة التحرر العربية كل طاقاتها من أجل التغيير من خلال شعارات التحرر ضد الاستعمار الأجنبي واستلام دفة الحكم بواسطة البرجوازية الصغيرة وصغار الضباط، والذين سرعان ما تحوّلوا إلى سلطات دكتاتورية ضد جماهيرها. وتوالت الإحباطات ابتداءً من هزيمة 67 أمام «إسرائيل» والحروب التي تلتها، ما دفع الرئيس جمال عبدالناصر إلى تقديم استقالته.
وبعدها الحرب التي خاضها أنور السادات واستطاع خلالها الجيش المصري عبور خط بارليف والتي ضخمها الإعلام المصري واعتبرها انتصاراً، وإن كانت العبرة في النتيجة، حيث استمر احتلال صحراء سيناء والجولان السورية، ما دفع نظام السادات إلى الرضوخ والدخول في مفاوضات مع الكيان الصهيوني تحت مظلة كامب ديفيد. وهي التي أطلق عليها مبادرة السلام، ما أفزعت الشعوب العربية مستنكرةً هذا التقارب على حساب المواقف القومية وقضية الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة.
وكانت هذه محطة من محطات الإحباط في تاريخ حركة التحرر العربية، وجاءت بعدها الحرب العراقية الإيرانية التي ساهمت فيها دول الخليج العربية بالدعم المالي، واستهلكت النظامين العراقي والإيراني من البشر والمال والسلاح، ما أدى لانهيار الوضع المالي والاقتصادي لكلا البلدين.
وتلتها صفعة انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي في 1985 الدولة الوحيدة التي وقفت مع حركة التحرر العربية وقدّمت لها المال والسلاح والتعليم المجاني في جامعاتها. ومع انهيار هذا المعسكر فقدت حركة التحرر العربية حليفاً أساسياً.
وأما الحرب غير المبررة التي قصمت ظهر البعير، فهي احتلال الجيش العراقي لدولة الكويت، الذي قسّم الشارع العربي إلى قسمين، قسم مؤيد ومعارض. وانتهت هذه الحرب بدخول قوات الجيش الأميركي وقوات التحالف في الكويت وتحريرها، وبعدها احتلال العراق والقضاء على النظام العسكري وإزالة الدكتاتور صدام حسين.
وطوال هذه الفترة لم تتوقف الأنظمة العربية عن ممارسة القمع والمطاردات البوليسية والتشريد والاغتيالات ضد التقدميين والقوميين والإسلاميين، واستخدمت معهم كل وسائل التعذيب النفسي والجسدي والاعتقالات لفترات طويلة، بما فيها الإعدامات لمجرد حرية الرأي.
كل ذلك طبع حياة الشعوب العربية التي تعاني من الإحباط، وانعكس ذلك في معظم الأعمال الثقافية من أدب ومسرح وفن وشعر ورواية وأفلام سينمائية، وبالمقابل تحوّلت بعض هذه الفنون إلى ماركات تجارية تتسابق من أجل المال، وبعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق والتربية والنهج الوطني.
المحصلة النهائية ان الثورات العربية التي انطلقت من تونس وأطاحت بنظام بن علي، وانتقلت رياح التغيير إلى جمهورية مصر العربية وأطاحت بنظام حسني مبارك، وانتقلت إلى ليبيا وأطاحت بالعقيد معمر القذافي ومازالت رياح التغيير مستمرةً إلى يومنا هذا، على رغم مرور أكثر من عام على انطلاقتها، ما هي إلا انعكاسات لواقع اقتصادي متأزم وأنظمة سياسية هشّة متآكلة من الداخل
إقرأ أيضا لـ "علي الحداد"العدد 3415 - الخميس 12 يناير 2012م الموافق 18 صفر 1433هـ
الاستاذ علي الحداد
مقال واقعي تحليل عبقري يدل على ان كاتبه مثقف واعي جدا وطني مخلص..الاستاذ علي البلد حاليا يفتقر الى امثالك من المثقفين المحللين والذين ينطقون بالحق...عقلاء في مقالاتهم مثقفون في طرحم رؤيه تحليليه واقعيه..هذا ان ذل على شيء يذل على ثقافه واسعه تقدم علمي فلسفه..شانكم كتاب جريدة الوسط..تتحفونا بمقالات رائعه دائما ماتبحثون عن حلول جدريه للمشكله التي يعيشها الوطن والمواطنين..شكرا لك استاذنا الكريم والرجاء منك المواصله والدوام على كتابة المقالات فاننا نفتقدك ونفتقد مقالاتك
شكرا يا حداد
انظمه ليست اكثر من اعجاز نخل خاويه نخرتها سوسه المصالح الضيقه والمحسوبيه والغوص في شهوات الدنيا وتهميش الشرفاء حتى بقت واقفه تنتظر هبوب رياح الخماسين الموسميه لتقتلعها من الجذور وما الفضائح والفضائع التى تكتشف بعد سقوط السلاطين الا دليل قطعي على نمط عيشهم وتفكيرهم في اداره المحرومين من الشعب والا رئيس جدران قصره محشيه مجوهرات واموال ومخدرات تكفي لتخدير الوطن العربي باكمله وابو زيزي شاب في مقتبل العمر لا يجد مايسد به رمقه من ماكل يعيش تحت رحمه الرئيس اين العدل في تقسيم الثروات الوطنيه ياابن علي
well done
تحليل صائب و موفق ، فيه حسٌّ و نَفَسٌ جماهيريٌ صادقٌ و واعٍِ ؛ عكْس النخبة المنحازة للنقيض!!! و ما أدراك ما النقيض؟؟؟
لك الشكر من الجماهير الفقيرة المُعانية من النخبة المنحازة للنقيض!
تصحيح:
بقيادة الاتحاد السوفياتي في 1989 و ليس 1985.
تحياتي...
أبو إلياس الجتوبي.