العدد 3414 - الأربعاء 11 يناير 2012م الموافق 17 صفر 1433هـ

درسٌ مصلاوي أنسى ما قبله وأتعب مَنْ بعده

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

وسَط الدَّم المسفوح في العراق ظهَرَ ما يُسكِّن المأساة. فالذي جرى خلال تفجير ناحية البطحاء في محافظة ذي قار بجنوب العراق ذي الغالبية الشيعية شبه المطلقة أعاد إلى الأذهان القيمة الحقيقية لاجتماع العراقيين، حين لا يعبث بمشاعرهم وحقوقهم أحد.

أصل التنويه هنا هو حول الخبر الذي أفاد عن مقتل جنديين عراقيين، وهما يحاولان منع إرهابي من تفجير نفسه وسط مواكب حسينية راجلة. لكن التفصيل الأكثر حول ذينك الجنديين هو أن المُجَندَيْن المذكوريْن هما من العرب السُّنة العراقيين، اللذين قدما حياتهما من أجل إخوانهم في الوطن والإنسانية والدين، الذين كانوا يهمُّون في المسير باتجاه محافظة كربلاء المقدسة.

الأنباء شبه المؤكدة من العراق أشارت، إلى أن الملازم نزهان صالح حسين الجبوري ونائب العريف علي أحمد سبع قدِمَا مع وحدات الجيش العراقي من محافظتي الموصل وديالى باتجاه مناطق الجنوب العراقي. وخلال أدائهما مهماتهما الأمنية رأيَا شخصاً يرتدي بزة عسكرية ومعه حقيبةٌ مُدلاةٌ على رقبته، حين شق طريقه وسط المواكب الحسينية الراجلة من الخلف وكان في حالة ارتباك وريبة ملحوظة، وسرعان ما لفت انتباههما فهرولا إليه ليسألاه عن هويته، فهرب منهما إلى أن حاصراه تباعاً حتى أمسكا به وارتميا فوقه فبادر إلى تفجير القنبلة التي كانت في الحقيبة المسنودة على صدره، فوقع انفجار هائل أحرق المكان، وتقطعت بسببه أوصالهما معه خلال التفجير ومعهما 38 ضحية، وقد ثلِّث جسداهما إلى ثلاثة أشلاء من شدَّة التفجير. وقد ساعد موقفهما البطولي هذا على أن ينخفض عدد الضحايا بين الزوّار إلى ذلك الرقم، وخصوصاً أن المجنديْن حاصرا الإرهابي في السرادق الموجود.

كلّ من حضر التشييع الجنائزي المهيب، الذي أقيمَ لهما في مدينة الناصرية الجنوبية، رأى حجم التلاحم الوطني الذي ساد الأجواء الحزينة هناك. لكن الأهم من كلّ ذلك، هو الرسالة التي عمَّدها ذلك الموقف الشجاع، لتؤكد طبيعة اجتماع العراقيين، الذي بدا أنه يساوي يقيناً اجتماعياً متقدماً، لم تقضِ عليه ظروف الاقتتال الأهلي ما بين العام 2006 والعام 2008 وتداعيات الاحتلال الأميركي في العراق. فهذان الرجلان قدَّما أقصى درجات التضحية، وهي عمراهِما اللذان لا ينقسمان على أكثر من نفسيْهِما في سبيل شيء أكبر، ذابا هما فيه، وسط لحظة حاسمة، لا تسمح بأن يفكر فيها الإنسان أكثر من أجزاء من الثانية، لكي يقرّرا ما عليهما فعله.

كان يُمكن لهذيْن الرجليْن أن ينهزِما من أمام ذلك الإرهابي، والنجاة بنفسَيْهِما خارجاً، مدفوعين بذاكرة مليئة بالدَّم وأنانية بشرية، لكنهما لم يفعلا. هذا الأمر جعل من العراقيين لأن يقفوا مدهوشيْن من هَوْل الموقف، حتى قال أحدهم: «ليت السياسيين يحترمون دماء هذا الرجل المصلاوي والآخر ابن ديالى ويكفون عن خداع الناس بالطائفية». وربما كان هذا الفعل، بمثابة المقوَد الذي أنقذ العربة من أن تنحرف مرةً أخرى نحو طريقٍ مثلَّم مثلما أراد الإرهاب لها، قد يدمّرها بمن فيها. وهي رسالةٌ بليغةٌ يجب أن يفهمها الجميع، من أن الطائفية في العراق، هي طائفية سياسية وليست طائفية مذهبية، ولا دخل للعراقيين البسطاء والعوام بها.

هنا، لا يجب كذلك أن تكون قراءة ذلك المشهد في داخل العراق وحده فقط، وإنما يجب أن يقرأه أيّ بلد عربي وإسلامي، يضمّ في أحشائه إثنيات وطوائف مختلفة. فالوطنية ومكافحة الطائفية، ليست شعارات ترمى هكذا، وإنما هي أفعال، لا تتحوَّل إلى قيم راسخة إلاَّ إذا تمت مقاربة مصداقها مع موضوعها. فحينما يعض الناس على جرح مفتعل من الحكم البائس، ليقوموا برتق الفتق، وتجاوز الحالة الطارئة لصالح حالة أصيلة، يصبح الأمر حريَّاً بأن يقتدَى، أما إذا حصل العكس، وقام البعض بالفرح لمأساة بعض آخر، والحنق على مكتسباتهم، والرقص على جراحهم، فضلاً عن الاشتراك في قتلهم، فهذا يعني حيوانية مترسخة، وضيقاً في الأفق وأنانيةً بكامل قوامها ومثالبها وبلاءاتها على الناس.

خلال المرحلة السابقة ولكل من كان يتابع شئون العراق، كان يرى أن الزمن بطيء جداً لمن ينتظر، سريع جداً لمن يخشى، طويل جداً لمن يتألم، قصير جداً لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب، كما كان يقول وليم شكسبير، أشهر أديب وكاتب مسرحي إنجليزي. الجميع كان يستحضر تلك الكلمات والعراقيون يعيشون الأزمة كلها بكمد، وبجميع صورها في آن. يعيشون بطأها، وطولها، وقِصرها، وحبها في اللحظة ذاتها. كما أنهم عاشوا الانتظار، والخشية، والألم والاحتفال والحب، من دون أن يشعروا بفوارقها عليهم، على رغم كل ما فيها من اختلافات في الصفة، وبالتالي كان الجميع ينتظر أن يحصل مثلما حصل لكي يُخرَج الزفير.

ما جرى في العراق طيلة السنوات الماضية، جعلني أحسّ فعلاً أن زمن العراقيين بات بطيئاً وهم ينتظرون فرَجاً لِكَرْبهم. ثم فجأةً يتحوّل ذلك الزمن البطيء، إلى آخر سريعٍ كالبرق، والعراقيون يتلافون ضربات الأحذية الخاطفة من فوق رؤوسهم، والصادرة من وراء جُدُر. ثم يتحوّل ذلك الزمن السريع إلى زمن طويل قاتل، وهم يتأوَّهون من شدة الألم، من جروحٍ خَرْمَشها على أجسادنا أناس ليسوا منهم. ثم يتحوّل ذلك الزمن مرة رابعة، من طويل إلى آخر قصير وبَرْقِي، حين يجدون لحظة سعادة يتندرون بها. واليوم وعندما ظفروا بمن يحبهم لإنسانيتهم وإنسانيته (حادثة البطحاء)، باتوا يؤمنون بأن الزمن سيكون لصالحهم مهما حصل. وهو درسٌ لكل الشعوب العربية لأن لا ترتكب المشين من الفعل بحق ناسها وأهلها

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3414 - الأربعاء 11 يناير 2012م الموافق 17 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:30 ص

      المهم

      وهي رسالةٌ بليغةٌ يجب أن يفهمها الجميع، من أن الطائفية في العراق، هي طائفية سياسية وليست طائفية مذهبية، ولا دخل للعراقيين البسطاء والعوام بها.

    • زائر 1 | 11:33 م

      انه الوعي الشعبي

      في العراق اشتغل الوعاظ المشبوهين على اذكاء نار الطائفيه البغيضه ولاكن معظم العراقين لم يبتلعوا الطعم الملوث المسموم لعشرات السنين وترى المصاهره بين كل طوائف العراق والقبائل العراقيه مازالت قائمه بغض النظر عن اختلاف المذهب او الدين وهي من اقوى التحصينات الفعاله لتماسك وحده الوطن ومن ابرز مايحسب لاهل الشيمه والنخوه العراقيين ان ترى فرد من اهل السنه يذبح نصف حلاله من الماشيه لاطعام زوار كربلا ويقول العام القادم انشاالله اكثر وشخص اخر عراقي مسيحي يقول انا اتشرف بكنس صحن مرقد الحسين شهر محرم كل عام

اقرأ ايضاً