سالَ دمٌ بريء في العراق. من الناصرية في الجنوب حتى بغداد في الوسط ثم ديالى في الشرق. تقطعت أوصالٌ وتهتَّكَت جماجم، وفقِئت أعينٌ، وجُدِعَت أنوف، وضرِبت أعناق، وبقِرَت بطون. لا هدف لدى هؤلاء من ذلك إلاَّ الجنون. فمرتكبو الجريمة لا وَصفَ لهم إلاَّ كما يوصَف البغاة الآثمون، ممن استقرَّت ذِئبيَّة حيوانية حاقدة في نواة قلبه. نفوسٌ ماتت عندها الضمائر والأخلاق والقيم، أو استذكار ما جاء في الأثر المروِي، أن الإنسان، إما أخ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخلق.
بالتأكيد هي ليست المرة الأولى التي يرفع فيها العراقيون المِجْلَد نائحين بكَمَد لا حدَّ له أحبابهم. أو بتمثلهم ثكلى أو يتامى أو أرامل؛ فهم قد تمرَّنوا على ابتلاع المأساة، طوراً من الاحتلال الهارب بخيبته تواً، وطوراً من الإرهاب الساقط بدناءته وخِسَّته. وربما أصبح حالهم (العراقيون) كمن يقول: ما دمتُ موجوداً فلا موت، وإذا جاء الموت فلا وجود لي، فلا داعي إذاً للتفكير في أمر ليس لي به شأن وأنا حي، مثلما قال الفيلسوف الإغريقي فيثاغورس.
موكبٌ في البطحاء بالناصريّة (370 كم جنوب بغداد) يقدِّم الطعام والخدمات لزوَّارٍ وهم في مناسبة دينية، أثناء جلوسهم متوسِّدين الثرى، طمعاً في راحة لأبدانهم قبل أن يُكمِلوا المسير راجلين باتجاه محافظة كربلاء المقدسة. يدخل بينهم شخصٌ بلا قلب، مُزَنِّراً حزاماً ناسِفاً يلفه بين خصره، فيقتل ويجرح 100 بين رجل وامرأة، وطفل وكهل! ثم بسيارتين ودراجة ملآى بالمفخخات بمنطقة الكاظمية، مع عبوتين ناسفتين في مدينة الصدر، تقتل وتجرح 91 شخصاً من المدنيين. أين هي البطولة في ذلك يا ترى؟ بل أين موضوع المعركة أصلاً في كل ذلك؟
أيُّ دينٍ هذا الذي يسمح لأتباعه بأن يفعَلوا بالناس هكذا؟ وأيُّ شِرعة حربٍ هذه التي تقول لهم لا ترحموا أحداً؟ أيُّ نموذجٍ يقدمه هؤلاء للعالَم، لو أنهم حكموا ضَيْعَة في بلدَة؟ إنهم عدميون، سوداويون، متعطشون للدَّم ولسفكه بغير حق ولا وجه وبلا حساب.
انفجار في مدينة البيّاع، وقبله في حي الأمين، وقبله في بغداد، وقبله في أبودشير، وقبله في الدورة، وقبله في منطقة الشعب، وقبله في اليرموك، وقبله في الكرادة. تفجيرات وسط باعة متجولين، وأسواق لبيع الخضار والفواكه والخبز. فأيّ دموية هذه التي يتبناها فكر كالذي نرى!
هم لا يريدون أن يقتلوا محتلاً أبداً، لأنهم يستمتعون بقتل مَنْ هو أضعف منه في العِدَّة والعتاد. إنهم الشيوخ والأطفال والنساء العزَّل. لو أن ضحاياهم منذ سقوط بغداد ولغاية اليوم كانت بين الأميركيين، لما بقيت واشنطن عاماً واحداً في العراق. ولو أن هؤلاء الضحايا قد سقطوا في «إسرائيل» لتحرّرت القدس وانبلج عصر الاستقلال للفلسطينيين. لكنهم اختاروا هذا الطريق، الذي يُراكمون فيه ضحاياهم دون عناء. هو إسراف في الدم ليس إلاَّ، فلا هي معركة تنتظر نصراً، ولا هو خصم بزائل.
هؤلاء يريدون أن يعود العراقيون إلى صراعهم وجاهليتهم. فيقتل صَدريٌّ دُوْرياً، وسماويٌ أنبارياً، وموصليٌ بصراوياً، ويوسفيٌ خالِصياً. هؤلاء يريدون ذلك أن يحصل، لأنهم لا ينمون إلاَّ في بيئةٍ موبوءة. لقد جربوها في تفجير العسكرييْن ونجحوا، وانزلق العراق حينها إلى أسوأ اقتتالٍ يشهده ناسه. لكن العراقيين وعوا إلى أن ذلك لم ولن ينفعهم. قتِلَ منهم مئات الآلاف، وشرِّد منهم 4 ملايين في هجرة داخلية وخارجية، وترمَّلت لهم مليونا امرأة، وتيتَّم لهم خمسة ملايين طفل. لقد كانت الكلفة عالية جداً. أدركوا أن ما كانوا فيه ما هو إلاَّ جاهلية أولى.
هؤلاء الجهلة، يريدون لعشرين في المئة من الزيجات المختلطة بين العراقيين لأن تنهَد وتتفكك. ويريدون من اجتماع العراق أن يتصدَّع، فلا يكون إمام الوقف السُّني مهديّ الاسم، ولا موسوي اثنا عشري في بغداد يُكنَّى بعمر الفاروق، ولا للشمَّريين في الجنوب شيعة، وفي الوسط سُنَّة، ولا للزبيديين ولا العزاويين ولا الكعبيين كذلك. هذا هو مسعاهم. إنهم لا يملكون أكثر من هذا الطموح البائس، الذي لم يكن يسعى إليهم إلاَّ محتل غاشم، أو متآمر آثم، منذ أن عرف البشر، مكر الدول الاستعمارية والإمبريالية، سواء في الشرق الأدنى أو في الوسط.
عندما نكتب عن سياسيي العراق ومشاكلهم وفسادهم، لا يعني أننا نتساهل في دماء العراقيين الأبرياء. فذلك شيء، وهذا شيء آخر. لا يحسبن أولئك النفر، أن شتم الاحتلال يعني القبول بقتل الناس. ولا يعتقدن أن محاكمتنا للسياسيين نقداً على الصحف، تعني القبول بأن يُشهَر سيفٌ على أحد بريء. هل الأمر مختلفٌ تماماً عما هم يفكرون فيه. قلنا وسنقول عن مثالب العملية السياسية، لكننا أيضاً لن نسكت عن أفعال محرَّمة شنيعة يرتكبها هؤلاء النفر الحاقدون على خلق الله، من السُّنة والشيعة والأكراد والصابئيين والمسيحيين.
قتلوا الأزديديين في قرى الموصل. وقتلوا الشيعة في الجنوب والوسط. وقتلوا السُّنة في الأنبار وصلاح الدين. وقتلوا المسيحيين في الموصل. وقتلوا الصابئة في الشمال وذي قار. فلم يبقَ لهم أحدٌ إلاَّ وحوّلوه إلى خصم وعدو.
هؤلاء ليس لهم دين ولا مِلَّة ولا قيم إنسانية. ومَنْ لا يكون له كلّ ذلك، فلا حاجة لأن تتفهم ما يقول وما يفكر. فما هو فيه لا يقل عن حيوانية وعواء لا ينفع معها إلاَّ العصا
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3411 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ
كربابادي - على طاري الباذنجان 2
فترى في هذه القصة البسيطة أستاذي أن البعض يعطّل عقله وتتحول البديهيات عنده إلى معادلات صعبة فقط لخدمة مصالح تافهة، بينما الأولى هو قبول العقلانيات حتى وإن خالفت المعتقدات. ولهذا عدّ العلماء (العقل) كأحد مصادر التشريع عندنا.
كربابادي - على طاري الباذنجان 1
يقول الدكتور علي شريعتي في (التشيع العلوي والتشيع الصفوي): أن حاكم سبزوار سأل غلامه ذات يوم: ما رأيك أن تطهي لنا اليوم مرق الباذنجان؟
فقال الغلام: فكرة رائعة، خاصة أن باذنجان سبزوار له مزايا فريدة !
بعد قليل غير الحاكم رأيه وقال للغلام: ان الباذنجان ثقيل على المعدة فلماذا لا تعد مرق الكمثرى؟
فقال الغلام: بلى يا سيدي خاصةً أن باذنجان سبزوار يسبب المغص !
غضب الحاكم وصرخ قائلاً: مالك أيها الصعلوك؟ تارة تثني على الباذنجان وأخرى تذمه !
فقال الغلام: عفواً يا سيدي فأنا خادم الحاكم ولست خادم الباذنجان !
أين العصا وإلى متى؟
أرى أنّ الحال قد استفحل ولكن أين العصا؟؟؟