عقلية إدارية غربية بفكر إحيائي إسلامي وعباءة تقليدية عثمانية، تقارب تركيا الملف السوري الشائك - والعصي على الحل كما يبدو حالياً - من زوايا ووجوه سياسية واستراتيجية عدة، يمكن اختصارها من خلال ما تؤكده القيادة التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم، على لسان ممثليها من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية، من أن هذا الملف السوري المتأزم والمعقد هو مشكلة داخلية لتركيا قبل أي شيء آخر. وهذا يعني - بالترجمة الحرفية - أن درجة الاهتمام به من قبل القيادة التركية الحاكمة تصل إلى المستوى السياسي والعسكري الأول، وخاصةً مع الحضور السياسي والإعلامي الدائم لهذا الملف في مجمل المشهد السياسي والمجتمعي التركي حيث لاحظنا منذ فترة دخول المعارضة التركية ممثلةً بحزب الشعب التركي على خط الأزمة السورية، من خلال قيام وفد من هذا الحزب برئاسة أمينه العام بزيارة معدة مسبقاً لسورية، ولبعض مناطق التوتر فيها.
وربما يكون من أسباب هذا التدخل التركي الواضح في هذا الملف أيضاً، هو وجود رغبة شعبية عربية وسورية بالأخص للمساعدة في الحل، بسببٍ من الجوار التاريخي والثقافي الديني، مضافاً إليه أن القيم التركية المؤسسة من الديمقراطية وحقوق الإنسان والنجاح الاقتصادي التنموي تتطابق مع مفردات الربيع العربي ونسائم الحرية العليلة التي بدأت مع ثورة تونس... على عكس القيم الإيرانية المؤسسة التي رفعت شعارات وألوية الممانعة والمقاومة فقط، وهذه لم يعد لها ذلك الوهج والامتداد في الشارع العربي ولاسيما بعد عجز دعاتها والمدافعين عنها عن تحقيق أدنى هدف لهم لا على مستوى الوحدة ولا الحرية ولا الاستقلال.
كما أن أسباب هذا التدخل التركي هو ما حدث سابقاً من طلبات رسمية سورية متكررة وملحة جاءت من أعلى المستويات السياسية، وجهت للقادة الأتراك للمشاركة والمساهمة الفاعلة في دعم توجهات الإصلاح السورية التي بدأت سابقاً منذ العام 2005، ومد يد العون للسوريين بهدف الاستهداء بالتجربة السياسية والتنموية التركية التي حققت معدلات نمو قياسية خلال سنوات قليلة، وخاصةً بعد أن عبّر أكثر من مسئول سوري رفيع، عن إعجابه الشديد بهذه التجربة الناجحة جداً على المستويين الاقتصادي والسياسي بحسب ما سمعناه من تصريحات للمستشارة السياسية والإعلامية السورية في بداية الحدث السوري.
وقد تجلت سابقاً أعلى مراحل تلك المحاولات الداعمة من خلال التأسيس للمجلس الاستراتيجي التركي السوري في العام 2009، وتوقيع عدد كبير من الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين بلغت نحو 60 اتفاقية صناعية وزراعية وتجارية وسياسية.
إذاً يمكن القول هنا انه قد جرت عملية إعادة تموضع استراتيجي لإدارة ملف العلاقة بين سورية وتركيا عبر تأسيس هذا المجلس (المجلس الاستراتيجي السياسي والاقتصادي) وذلك على خلفية وجود نوايا سياسية طيبة بين الفريقين السوري والتركي لبناء شراكة حقيقة مفيدة للبلدين، حيث تم التعويل على هذا المجلس كثيراً في تعزيز هذا التصور العام عبر هذه العلاقة الاقتصادية المتبادلة وخاصة في البداية من جانب الأتراك، باعتبار أنهم أصحاب نهضة اقتصادية وصناعية مهمة أوصلتهم إلى مصاف الدولة السابعة عشرة في العالم من حيث قوة الاقتصاد، وإحدى المراتب الأولى من حيث تطور وتقدم أرقام ومعدلات التنمية الاقتصادية، ما جعلهم يتفوقون في ميزانهم التجاري الرابح على كثير من دول العالم ومنها سورية، بلغ نحو 2،5 مليار دولار في العام 2010، بزيادة تقارب 43 في المئة، وكان ينتظر له أن يبلغ خمسة حتى نهاية العام 2012.
وهكذا تم التهليل في مختلف وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية السورية وحتى التركية لهذه الخطوة النوعية المهمة، وبنى عليها الكثيرون هنا في سورية بالذات آمالاً واسعة ولاسيما أن الاهتمام التركي بالسوق السورية الواسعة شمل كل شيء من بناء شراكات اقتصادية وإقامة سدود صداقة، وتأسيس محافظ استثمارية بحدود 300 مليون دولار، وإنشاء البنى التحتية المتعلقة بالمياه والصرف الصحي، إلى مختلف أنواع الصادرات التركية إلى سورية من أنواع المعدّات الكهربائية، والوقود المعدني، والزيوت النباتية والحيوانية، ومنتجات البلاستيك، ومختلف أنواع منتجات الصناعات التحويلية والمؤتمتة، ومشتقات البترول المصنعة، والمنتجات الكيماوية، والاسمنت، ومنتجات الحديد والصلب، وصناعة القرميد والبلاط، والمنتجات الجلدية والأخشاب والقمح والدقيق والسمن النباتي والملابس الجاهزة.
إذاً كان الدخول التركي الواسع للأرض السورية والمبني على دوافع المصالح المتبادلة بين الطرفين، قائماً على رؤية سياسية جديدة أسس لها حزب العدالة والتنمية، انطلقت من فكرة تصفير المشاكل مع دول الجوار، ووصول تركيا لمواقع اقتصادية وتركية وفتح أسواق جديدة لها في كل الأرجاء.
ولكن تركيا – كدولة كبيرة صاعدة مهتمة بمواصلة بناء ذاتها وانفتاحها على الجميع - اعتبرت أن حدوث مشاكل وتعقيدات عسكرية وأمنية متلاحقة في جوارها قد يسبب لها أوجاعاً لا تحتملها، يمكن أن تؤثر سلباً على مجمل حركتها الاقتصادية وغير الاقتصادية، بما يجعلها غير قادرة على السكوت بأي حال من الأحوال على ما يجري من احتقانات واستقطابات طائفية حادة في جارتها الجنوبية سورية التي تشترك معها في حدود تصل إلى نحو 850 كم.
وبعد تصاعد حدة الأزمة السياسية السورية الداخلية، وعجز الساسة السوريين – منذ بداية الأحداث في درعا - عن احتواء خلفيات المشكل البسيط الذي تسبب بالتفجر، وعدم إيجاد مخارج حكيمة وعقلانية سلمية لتلك المشكلة التي تفاقمت لاحقاً وتدحرجت ككرة الثلج منذ نحو ستة أشهر، تتالى فيها خروج الناس بأعداد كبيرة في مختلف المدن السورية للمطالبة بالإصلاح السياسي، ورحيل النظام، واحتمال وصول شرارة تلك الأزمة إلى دول الجوار، سعى الأتراك للعب دور الوسيط السياسي المتوازن، والحامل والضامن والمرشد لمشروع الإصلاح السياسي السوري، وفتحوا مع نظرائهم السوريين خطوطاً ساخنة للبقاء على تواصل دائم معهم حتى نهاية رمضان الماضي، بهدف دفعهم وحثهم على إجراء تلك الإصلاحات السياسية الحقيقية بصورة صادمة وفورية مؤثرة، كانت قد نُقلت إليهم عبر وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، في محاولة أخيرة ونهائية منهم - كما يقولون - لتجنيب سورية منزلقات سياسية وعسكرية خطيرة تتهدد المجتمع السوري بأكمله، وتربك الحسابات الاقتصادية والسياسية في هذه المنطقة المتوترة أصلاً، وتؤثر سلباً على مستقبل دولها بالكامل.
على المقلب الآخر، كان هناك إصرار دائم لدى المسئولين في سورية – برز خصوصاً بعد مضي الشهرين الأوليين من الانتفاضة - على رفض وإنكار تسمية المظاهرات في سورية، بأنها مظاهرات سلمية إصلاحية، على رغم وصفهم لتلك المطالب المرفوعة في البداية بأنها مطالب «محقة وعادلة»، بل لاحظنا كيف تبنى هؤلاء المسئولين وجهة نظر معاكسة تماماً لرؤية وتحليل كل الدول الأخرى، فما يجري حالياً في نظرهم هو مؤامرة خارجية حيكت ضد سورية الشعب والنظام في ليل أليل، شاركت فيه تركيا، ودول الخليج، بالتعاون والتنسيق مع دول أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل، تهدف (تلك المؤامرة) إلى إسقاط النظام السوري الممانع والمقاوم كآخر حصون وقلاع هذه المقاومة، ومعاقبته على احتضانه الدائم السابق والحالي لمشروع وثقافة الممانعة. وان سورية لو استجابت واستسلمت لهم، وباعتهم ملف العلاقات السورية الإيرانية، وضحت بحزب الله وحماس، أي لو تنازلت عن ملف المقاومة بالكامل، لأوقف هؤلاء المتآمرون تلك المظاهرات وسياسة القتل التي تقوم بها جماعات وعصابات مسلحة، وألغوا دعمهم لهذه الحركات والجماعات الإرهابية المتعددة – من مندسين ومتآمرين وسلفيين ورجعيين وأصوليين وقاعديين وربما فلسطينيين - التي لاتزال تتنقل – بحسب الرأي الرسمي - من مدينة سورية إلى أخرى لتمارس مختلف أعمال الترويع والقتل العنفي الطائفي بحق المدنيين والعسكريين
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3411 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ