العدد 3409 - الجمعة 06 يناير 2012م الموافق 12 صفر 1433هـ

جدتي والطفل والأذان وغاز مسيل العواطف

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كانت الساعة تشير إلى الخامسة وأربع عشرة دقيقة من مساء الثلثاء، ومع ارتفاع صوت الأذان وبين عبارتي أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله، دوّت أصوات في الفضاء المحيط بالمسجد والبيوت المجاورة له من جراء طلقات ما يسمى مسيل الدموع الجديد. فغرقت المنطقة، كالعادة، في ضباب كثيف بسبب دخان ذاك المسيل، ولا تسأل في أي مكان، فكل الفضاءات مباحة لهذا المهيج للواعج الناس وزفراتهم.

وقد تساءلت عجوزٌ مع حفيدها وهو يسكب لها الماء للوضوء لصلاة المغرب في (حوش) بيتها الآيل للسقوط على هامش الحياة السياسية: الآن وقت الأذان، أليسوا بمسلمين؟ ألا يصلي هؤلاء الناس الذين يطلقون علينا المسيل مع رفع الأذان؟ فردّ عليها حفيدها: لا أدري يا جدتي، فأنا لا علاقة لي بالسياسة. فردّت الجدة باستغراب فطري: وهل شاهدتني رفعت علماً أو لافتة أو اشتركت في اعتصام بعكازيَّ هاذين! أسألك عن سبب وجود هذا الدخان الذي يدمي عيوننا ليل نهار، وأنت تقول سياسة! فردّ الحفيد بالنبرة نفسها: لا أدري يا جدتي ما علاقة مسيل الدموع بالسياسة والصلاة؟ ثم إنني خريج علمي تخصص كيمياء وليس علوم سياسية تخصص إدارة أزمات سياسية مستعصية!

وهنا أرادت الجدة أن تفهم شيئاً عن هذه المسيلات الدمعية، فسألت: إذن لماذا لا تشرح لي شيئاً عن هذه الغازات بعد الصلاة والدعاء، علني أستطيع تجنب ضررها على صحتي المتدهورة يا خلف جبدي؟ فردّ الحفيد: اليوم لن أستطيع يا جدتي، لكني أعدك في ليلة الجمعة وبعد الصلاة وقراءة الدعاء أن أزوّدك بما أعلم عنها كيميائيّاً فقط، وليس سياسيّاً!

وفي الليلة الموعودة وقبل أن تتصاعد أبخرة حفلة الزار المعتادة، قال الحفيد لجدته: اسمعي يا جدتي العزيزة! أشهر هذه الكيماويات التي تستنشقونها يوميّاً وأكثرها استخداماً هما «سي إس» و»سي آر»، على رغم أن هناك نحو 15 نوعاً مختلفاً من الغازات المسيلة للدموع (مثل الأدامسايت أو البروموأسيتون، والسي إن بي، والسي إن سي) وغيرها، لكن استخدام «سي إس» حظي بانتشار أكبر نظراً إلى آثاره القوية.

سألته: لكن من الذي اخترع هذه الغازات الضارة بنا يا ولدي، الله لا يعطيه عافية؟ ردّ الولد بفخر معلوماته: كما قرأت في (النت) أن غاز «سي إس» وهو بالإنجليزية (CS gas) هو الاسم الشائع لمادة لا أظن بتعرفينها لكن اسمها (كلوروبنزالمالونونيتريل)، وهو ما يطلق عليه أهل البحرين هذه الأيام «غاز مسيل الدموع». وهو في الحقيقة ليس غازاً، بل يوجد على شكل رذاذ لمادة مذيبة متطايرة مضاف إليها مادة (الكلوروبنزالمالونونيتريل) «سي إس»، وهي مادة صلبة في درجة حرارة الغرفة.

ويقولون إن من اكتشف هذا الغاز هما أميركيان. فردّت الجدة بفطرتها: عساهم ما يربحون! فعلّق الحفيد: ماتوا جدّتي من زمان، واسمهما (بن كورسون - روغر ستوتون)، واخترعاه العام 1928. واشتق اسم الغاز (سي إس) من الحرفين الأولين من اسمي عائلتي مكتشفيه. والغريب في أمر هذه الغازات السامة يا جدتي أنها استخدمت في البداية على الحيوانات كحقل تجارب فلم تؤثر فيها نظراً إلى قنواتها الدمعية الأقل تطوراً، ولأن الفراء يشكل نوعاً من الحماية لها. فقام أهل الشرّ بتطوير هذه المادة وأجريت عليها التجارب سرّاً في حقل تجارب في منطقة سرية بإنجلترا تابعة إلى الجيش البريطاني استُخدمت في تجربة الأسلحة الكيماوية في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وقد وصف الكيميائيان اللذان اكتشفا المادة أن آثار المسحوق الجاف «كارثية»، وهذا تصريح من مكتشفيها وليس من بوق معارض كما يدعى.

وهنا سألت الجدة عن مضارها على الناس بعد تطويرها، فقال الحفيد: أما سؤالك يا جدة عن الغازات التي تنبعث مما يسمى بقنابل مسيلات الدموع؛ فهي كما أخبروني خارج البيت لا خوف منها، إلا أنها فقط مواد كيماوية تقوم بتحفيز أعصاب القرنية في العينين على إفراز الدموع والشعور بالألم وتصل إلى حد العمى المؤقت، وربّما تؤدي إلى حدوث سعال شديد مع القيء الفوري والانهيار الجسدي، في حالة استخدامه بجرعات عالية التركيز، بس! وقد قرأت في بعض الدراسات التي تثير الشكوك حول ضرر هذه المادة، أنها ربما تسبب أذى شديداً للرئتين، وقد تسبّب تأثيرات بالغة على القلب والكبد وفقدان التركيز، والدوار، وصعوبة التنفس، بس!

وفي سبتمبر/ أيلول العام 2000، نشرت دراسة لمكتب الاستشارات الخاصة الأميركي بشأن استخدام غاز «سي إس» خلصت إلى أن هناك عاملين يحددان إمكانية حدوث الوفاة نتيجة استخدام هذا الغاز، هما: استخدام أقنعة الغاز من عدمه، وما إذا كان من يتعرضون للهجوم بالغاز موجودين في منطقة مفتوحة أم مكان مغلق. واستنتج أنه في حالة وجود المهاجَمين في مكان مغلق؛ فإن هناك احتمالاً واضحاً بأن يساهم التعرض لغاز «سي إس» في إحداث الوفاة، بل ويمكن أن يتسبّب فيها بشكل مباشر، بس!

كما تربط الكثير من الدراسات بين التعرض لغاز «سي إس» وبين حدوث الإجهاض، وهو ما يتّفق مع ما ورد في تقارير سابقة عن تسببه في إحداث خلل في كروموسومات (صبغيات) الخلايا عند الثدييات. وهنا أصيبت الجدة بهم وغم كبيرين لِما سمعت: كل هذا يجي من الغاز؟ فأضاف الحفيد: ولا بعد، يقولون إن غاز «سي إس» يطلق أبخرة «شديدة السمية» عندما يسخن إلى حد التحلل، ويمثل خطراً عاجلاً على الحياة والصحة. كما ذكرت التقارير العلمية أيضاً أنه يجب تقديم العلاج الطبي بشكل فوري لمن يتعرّض لهذا الغاز، لكن ليس في مستشفيات الحكومة!

وآخر الغيث، أن المعلومات العلمية والطبية تؤكد يا جدتي أن مذيب (MiBK) الذي يستخدم في إذابة مادة (سي آر) لتحويلها إلى رذاذ هو مادة ضارة هي أيضاً، وتتسبب في حدوث التهابات وحروق في الجلد، وتلف في خلايا الكبد. وأن هذه الغازات السامة يبقى أثرها في الهواء من حولنا لمدة وتنتقل من منطقة إلى أخرى لأن الغازات لا تعرف الطائفية ولا تفرق بين قرية ومدينة، وتسبب على المدى البعيد تشوهات خلقية وأمراضاً مزمنة للسكان في مساحة لا تتجاوز الـ 750 كم². والدليل ما حصل للجنود الأميركان في حرب العراق في التسعينات وأثناء الغزو العام 2003 وما بعده. فقد أصيب آلاف منهم بأمراض مزمنة على رغم أنهم هم من كان يطلق الصواريخ والقنابل والغازات المنبعثة منها واسألوا «الأصحاب» إن لم تصدقوا. وهنا صمتت الجدة وبقيت حتى اليوم تتنفس وتتأمل حكمة رب العباد في خلقه.

يوم رفع الطفل الهاتف وهو يكاد يختنق من الغاز المسيل للعواطف، كما يحبذ البعض أن يسميه تلطفاً به، واتصل برقم شاهده في إعلانات الشوارع عن مركز حماية الطفل، كُتب تحته: «خط نجدة ومساندة الطفل». بقي الطفل لدقائق ينتظر وكاد يغمى عليه وهو آخر من بقي، لأن من في البيت أُغمي عليهم فعلاً. وعندما انفتح الخط فرح الطفل فشكا للطرف الآخر على الهاتف مشكلة طفولته في هذا الزمن المدخن، وهو يذرف الدموع ألماً وخوفاً، لكنه سمع رسالةً مسجلةً ومكرّرةً تقول له في ست كلمات فقط: «نحن نعمل من أجل طفولة آمنة»

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3409 - الجمعة 06 يناير 2012م الموافق 12 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 3:06 م

      اليوم فقط

      اليوم العصر قاموا يضربون مسيل دموع في كل بيت

    • زائر 9 | 7:33 ص

      بارك الله بك

      جزيل الشكر دكتور محمد .. ضربت عدة عصافير بحجر واحد بهذا المقال عل من أباح اطلاقها يعي ماهي و ماهي مضارها . شكرا مجددا

    • زائر 8 | 7:22 ص

      لو

      لو دولنا عملت على الاصلاحات لما احتاجت ان تصرف الاموال الطائله لجلب الاسلحه المصنفه للحيوانات وبدلا منها والاحق ان تصرف الاموال على المختبرات والعلم وتطوير البلاد التي تحتاج لكل سواعد ابناء اوطاننا

    • زائر 7 | 5:55 ص

      شكرا لكم

      شكرا لهذا الأسلوب في الكتابة
      بارك الله فيك.

    • زائر 6 | 1:52 ص

      هل ستكمل؟

      معلومات عن هذه الغازات وأسألة الجدة عن تأثيرها على الجنين والطفل الرضيع والفتى والشاب والشيخ الكبير؟ أم سيبقى الموضوع مقفل !!
      أتمنى التكملة من الإستاذ الفاضل جزاك الله خيراً

    • زائر 5 | 11:58 م

      أكمل

      ... في لحظات فقط اغرقت القرية بمسيل العواطف اصبح الجو ظبابيا وكل زقاق في القرية مررت به كان يان من وطات الدخان.. لحظتها انتابني حقد دفين وأخذ قلبي يغلي لقد تألمت على قريتي لكنني لم استطع ان اقدم اي شيئ وهذا ما أدمى قبي

    • زائر 4 | 11:57 م

      منظر حرق قلبي

      امس العصر وتحديداً في قرية سار كنت خارجة من منزل العائلة وكانت تلك اللحظة على ما يبدو لحظة تفرق المتظاهرين كانت الشوارع خالية تماماً الا من قوات الشغب التي تنتشر في القرية

    • زائر 2 | 11:47 م

      شكرا

      اسلوب رائع في الطرح

اقرأ ايضاً