في القراءة النقدية للفكر القومي التي كان الحديث السابق تحت عنوان «العروبة الجديدة» إحدى محطاتها، أشرنا إلى أن فكرة العروبة ظلت دائماً أسيرة اللحظة التاريخية، تجاذباتها وتوتراتها. وأوضحنا أن النظرة السلبية تجاه الدولة الوطنية، أمست حقيقة ماثلة في الفكر العروبي منذ تكشف حقيقة الاتفاق البريطاني - الفرنسي المعروف بـ «سايكس - بيكو»، وانفضاح أمر وعد بلفور وما نتج عنهما من تفتيت لبلاد الشام. وتلك أول معضلة واجهها الفكر القومي، بعد نهاية الحرب الكونية الأولى.
المعضلة الأخرى التي واجهها هذا الفكر، يمكن أن نعبر عنها بالافتراق في النظرة إلى الأمة بين مشرق الوطن العربي ومغربه. وقد ظلت معالم هذا الافتراق، في الفكر القومي قائمة حتى يومنا هذا. وتعود هذه المعضلة إلى تنوع طبيعة التحدي والمواجهة التي حكمت مفهوم الهوية بالبلدان العربية. ففي المشرق، كان النضال الوطني «قوميا» خالصاً. وقد انبثقت العروبة، لغة وثقافة من هذه البيئة، حيث سبقت انفجار حضارة الإسلام بوقت طويل. وكان الدين الحنيف، ونزول القرآن على العرب، وبلغتهم وببلوغ الفتح العربي بلاد الشام ومصر، اعتنق معظم السكان الدين الجديد، لكن نسبة كبيرة منهم أبقت على دياناتها الأصلية.
في هذا الواقع، بقيت العروبة، عاملاً توحيدياً، وتجسيداً للوحدة الوطنية بالمشرق العربي، وبقي هذا الوضع قائماً، حتى إبان الحروب الصليبية، وبعد سقوط الدولة العثمانية، ومواجهة العرب للاستعمار الأوروبي التقليدي. وكان رفع المصريين لشعار «يحيا الهلال مع الصليب»، تجسيداً عملياً لبقاء العروبة، عاملاً توحيدياً وطنياً أصيلاً لهذا الشعب.
يضاف إلى ذلك، أن تعرض الثقافة العربية، دون الدين الإسلامي، في الجزء المشرقي من الأمة، في أثناء الهيمنة العثمانية، للتخريب والتدمير، لم يوجه النضال الوطني ضد المستعمر وجهة دينية، فكانت النتيجة اتحاد المشارقة بجميع طوائفهم ومعتقداتهم الدينية في مواجهة العثمانيين. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يكون معظم زعماء النهضة، شهداء أيار من معتنقي الديانة المسيحية، كونهم ضحية نوعين من الاضطهاد العثماني: ديني وقومي.
في المغرب العربي، تداخلت المعاني القومية والدينية بالنضال الوطني. وذلك أمر بديهي، فبلدان المغرب، حتى بعد احتلال العثمانيين لها، تمتعت بحكم سياسي شبه مستقل، بعيداً عن تأثير السلطان العثماني. وتجسدت معاناتها، وبشكل خاص الجزائر، في خضوعها فيما بعد، لاستعمار فرنسي استيطاني عسكري مباشر، قل أن يوجد له نظير في وحشيته وشراسته. وقد تعرض لمقاومات الشعب وتخريب ثقافته، وفي المقدمة منها معتقداته الدينية، فكان أن تداخلت المعاني الدينية والوطنية، في الكفاح من أجل الاستقلال.
هذا الموقف لم يكن فقط وليدًا للتحدي الاستعماري، وطبيعة الاستجابة له، بل يجد جذوره التاريخية في الطريقة التي جرى بها تعريب بلدان المغرب العربي. ففي حين اكتسبت بلدان المشرق، العربية لغة لها قبل الإسلام، فإن انتشار العربية بأقطار المغرب ارتبط بالإسلام الذي جرى اعتناقه أولاً، ثم لحقت ذلك بعد عقود طويلة عملية التعريب. بمعنى آخر، العروبة بالمغرب العربي، جاءت ملحقة بالإسلام الذي احتل مكانة هائلة ورئيسية في بناء التجربة التاريخية المغربية، وارتبطت به ثقافة المجتمع وطقوسه اليومية. وكانت عملية الصهر بالمجتمع المغاربي، إسلامية بالدرجة الأولى، وعربية في مراحل لاحقة. ونتيجة لذلك، لم يرق شعور هذا المجتمع بالعروبة إلى مصاف الشعور بالإسلام، بل نشأ في الوعي أنه لا يمكن إدراك العروبة إلا من خلال الإسلام، وليس بمعزل عنه.
إلى جانب ذلك، خلق التنوع القومي بالمجتمع المغاربي، حاجة ملحة إلى أيديولوجيا توحيدية، تجمع العرب والأمازيغ. فحركة التعريب رغم نجاحها بشكل واسع، فإن الازدواجية العرقية والثقافية استمرت قائمة في البلاد. ونظراً إلى غياب عناصر التوحيد الأخرى، بقي الإسلام وحده القادر على ردم الهوة القائمة بين المتكلمين بالعربية والناطقين بالأمازيعية. يضاف إلى ذلك، غياب التنوع الديني في بلدان المغرب العربي، باستثناء اليهود الذين نأوا، بسبب مواريث دينية وتاريخية، عن الاندفاع إلى رابطة العروبة، وظلوا حذرين من الاندماج مع الغالبية الإسلامية، وأصبحوا في انتمائهم أقرب إلى الولاء القطري منه إلى الولاء القومي. لقد أدى ذلك إلى خلق علاقة خاصة بين الإسلام والعروبة، اتسمت بالتداخل والتحاور والتعايش.
هذا التمايز في الرؤية إلى العروبة، بين المشرق والمغرب خلق معضلة: نظرية واستراتيجية في الفكر القومي العربي لايزال يعانيها حتى يومنا هذا، رغم جهود أكاديمية بذلتها بعض المراكز العلمية، يأتي في مقدمتها جهود مركز دراسات الوحدة العربية، لصياغة رؤية نظرية عن العلاقة بين الإسلام والعروبة.
المعضلة في جوهرها، تكمن في الإطار النظري الذي انطلقت منه حركة القومية العربية. فكما كان النظر منفعلاً ومرتبكاً بالنسبة إلى الموقف من الدولة الوطنية، بالشكل الذي ناقشناه في حديثنا السابق، فإن الموقف من العناصر التي تشكل الأمة، هي الأخرى ظلت مرتبكة وقلقة وأسيرة لتوترات وتجاذبات اللحظة التاريخية.
ارتبطت العروبة، كما نظر إليها فيلسوف القومية العربية، ساطع الحصري، باللغة التي أصبحت عمادها، وركنها الأوحد. أصبحت العناصر المكونة للأمة في الفكر القومي العربي هي اللغة والثقافة والتاريخ المشترك. ورغم ما يبدو في هذا الترتيب من عناصر مختلفة، فإنها جميعاً تحيل إلى عنصر واحد هو اللغة. فالتاريخ المشترك يحيل إلى تاريخ الناطقين بالعربية، وكذلك الثقافة المشتركة تحيل إلى المعنى ذاته. والنتيجة أننا أمام عنصر واحد فقط مكون للأمة هو عنصر اللغة. أما الدين فلم يكن بالإمكان طرحه في النضال ضد السلطنة العثمانية، لأنه من جهة، جامع بين المحتَلّ وقوة الاحتلال. ومن جهة أخرى، فإن رواد النهضة العربية، لم يكونوا في الأساس معتنقين للإسلام، بل كان جلهم من المسيحيين. إضافة إلى أن دمج الإسلام، كعنصر من عناصر القومية، يعني نفي انتماء غير المسلمين للأمة العربية، وذلك ما يتعارض مع المطامح والتطلعات القومية التي حكمت مسار المقاومة ضد الحكم العثماني.
أوجدت توترات اللحظة التاريخية، تصورات مختلفة لمفهوم الأمة بين مشرق الوطن العربي ومغربه. ففي المغرب امتزج مفهوم الأمة بالإسلام. أما في المشرق العربي، فإن المجابهة مع الأتراك دفعت بالمفكرين العرب إلى التركيز على قضية الـ «نحن» والآخر... بمعنى العرب مقابل الأتراك. وهذا التمييز لم يرتبط بمشروع سياسي لإقامة وحدة عربية. فمثل هذا الطرح جاء متأخراً، إذ لم يطرح بوضوح، ويأخذ شكلاً أيديولوجياً إلا بعد منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، في أثناء احتدام المقاومة ضد الاستعمار الغربي. هذه واحدة من المعضلات الرئيسية التي يعانيها الفكر القومي الآن، وربما تجعلنا قادرين على وضع أصابعنا على مواقع الضعف في الفكر القومي العربي، وبالتالي تسعفنا في التعرف إلى بعض الأسباب التي أدت إلى تداعيه.
فاقتصار عناصر الأمة على عنصر واحد، هو اللغة العربية، وصم العروبة بالعنصرية والشوفينية، وأعطى وجاهة للاتهامات التي تصف الحركة القومية بذلك. وللأسف أسهم التركيز على فكرة الوحدة، في تغييب العناصر اللازمة الأخرى لمشروع النهضة من التنظير الوحدوي. على سبيل المثال، غابت الوحدة الجغرافية والاقتصاد، وعلاقة الدولة بالأمة من الفكر القومي.
وقد حان الوقت للوقوف عند هذه العناصر، لعل في تناولها ما يعيد الاعتبار إلى الفكر القومي العربي ويسهم في صياغة العروبة الجديدة، موضوع مناقشتنا، في عصر سمته أنه عصر تكتلات كبرى، وحسابات رياضية عقلية، واقتحام بقوة واقتدار لبوابات التاريخ. هذه العناصر ستكون موضعاً للمناقشة في محطتنا المقبلة
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3408 - الخميس 05 يناير 2012م الموافق 11 صفر 1433هـ
سر تلاقي الفكر القومي والاسلامي على ارضنا
موضوع شيّق ومفيد بحاجة الى قراءته والتمعن فيه من قبل افراد مجتمعنا الذي يعصف به هذه الايام موجات من الثورية وتتجادبه افكار من هذا الطراز ، نعم نحن بحاجة الى الوقوف اكثر عند مقومات الفكر القومي وما يطرحه من افكار على الصعيد النظري حتى نتمكن من معرفة سر التلاقي والاندماج بين هذا التيار العروبي القومي مع فصيل من التيار الاسلامي على ارضنا الحبيبة ، شكرا والف شكر الى صاحب هذا القلم