«توجد في العالم مشكلتان: العنف والألم. لقد قبلنا بحياة ملؤها العنف والألم بوصفها حياة طبيعية. فهل يمكن لنا التحرر من هذا العنف وهذا الألم؟ تلكم هي المسألة الجوهرية بنظري».
ذلك ما ورد في لقاء بالفرنسية في سبتمبر/أيلول 1966 على موجة إذاعة «فرنسا الثقافة» أجراه الصحافي والكاتب الفرنسي رونيه فويريه مع المفكر الهندي ج.كريشنا مورتي، ونشره حصرياً موقع «معابر». مورتي تناول في جل كتبه ولقاءاته القضايا الفلسفية الروحية، وتضمنت أطروحاته الثورة النفسية، وطبيعة العقل والتأمل. من أهم مؤلفاته: «الحرية الأولى والأخيرة»، «في مواجهة الحياة»، «التحرُّر من المعلوم»، «أنتم العالم»، «يقظة الفطنة»، «إنهاء الزمن»، «المنقول والثورة»، وعدد من الإصدارات.
عودة إلى المشكلتين اللتين تحدث عنهما كريشنا مورتي في لقائه مع فويريه: العنف والألم. ممارسُه ومتلقيه. يظل ممارسه - من دون شك - غير سوي. لا عنف - تحت أي عنوان - يصدر عن نفس سوية. أتحدث هنا عن العنف الذي مصدره السطوة واستعراضها، واختبار القوة. عنف النزهة والترويح عن النفس لدى كثيرين. لا أتحدث عن رد الفعل تجاه ذلك النوع من العنف. ذلك حق مكتسب من حيث المنطق والأخلاق وحتى النظم والشرائع على اختلافها، الأرضية والسماوية.
ممارس العنف يتكئ على مرآة ومرجعية، وهو تماماً ما أشار إليه كريشنا مورتي في اللقاء ذاته. المرآة التي تمثل مرجعاً لصورته وهيئته؛ عدا مرجعية المنقول بحسب تعبيره.وهو في الصميم من المعنى ذاته الذي عرَّج عليه في اللقاء بقوله: «الإنسان يخاف الوحدة وبالتالي يقبل المرجعية». بغض النظر عن أخلاقية تلك المرجعية من عدمها، وليس بالضرورة أن تكون مرجعية مباشرة في الأخذ عنها، حضوراً أو نصاً. الممارسة تكشف الانشداد إلى تلك المرجعية. خوف ممارس العنف من وحدته ولو سوَّر نفسه بالحرس - يظل وحيداً - يدفعه إلى اختبار انتهاكه حق البشر الطبيعي في اجتماعهم وألفتهم وانفتاحهم على بعضهم بعضاً.
عنف الدولة العربية الحديثة منذ نشأتها - وحتى ما قبل نشأتها - هو مرآة واستناد إلى مرجعية وجودها أساساً.وجود قام أساساً على العنف. لم يبدأ بالخيار. بدأ بالفرض والاستيلاء والهيمنة، وإن تعدَّدت المسمَّيات واليافطات في تصنيف تلك الدول جمهورية كانت أم ملكية. وإن تفاوتت درجة العنف الذي تمارسه هنا أو هناك.
وبالعودة إلى الألم، هو الآخر له مرآته ومرجعيته الفادحة. العنف مصب رئيس للألم. لا عنف يتيح لك دغدغة مشاعر. لا ألم يدعك ترقص برحابة روح. ترقص ربما من ألم. ليس رقصاً هو. احتضار من نوع آخر. قد يكون احتضاراً مؤقتاً. مرآة الألم التي تتفقدها بين حين وآخر لا تدعك تنتبَّه إلى جذر ألمك. حطّم المرآة. كن أنت المرآة لك. لكل شيء فيك والنقيض. تحرر من المرآة. لا تجعلها مرجعاً. المرجع انشداد. الانشداد استسلام، تواطؤ، إذعان. كيف لألمك أن يزول بكل ذلك؟
في اللقاء نفسه يسأل فويريه، كريشنا مورتي: «ما الإنسان، إذن؟ يجيب: «يلوح لي أن الإنسان أهم بكثير من العقيدة أو المنقول أو السلطة. الإنسان في كل مكان يتألم.يعاني الجزع والخوف. لذا يجب، على ما يبدو لي، أن يفهم وجوده نفسه؛ ولكن ليس بواسطة المرجعية، المنقول... إلخ. هل يستطيع أن يتحرر من ذلك كله؟ التحرر من هذا الإشراط أمر في غاية الأهمية».
للعنف منظومته. للألم منظومته هو الآخر. وللعنف مرجعيته كما الألم؛ فيما الفرق يكمن في أن الألم لا خيار لنا فيه. العنف أمر آخر. العنف بعضه لنا خيار في رصده.عنف بشري يهطل علينا بفعل هيمنة على الجغرافية وبفعل تسلح بالتاريخ. التاريخ الذي كثيراً ما يكون مريضاً أو منحرفاً ولا شهادة حسن سير وسلوك له؛ فيما عنف آخر مصطنع، مخلَّق ذلك ما لا معنى لنا من دون أن نرد كيده في أكثر من نحر له. نرسله إلى جحيم عذاب يتسق مع العذابات التي نثرها في طريقنا إن لم يتجاوزه.
أية مرآة وأية مرجعية تلك التي تحدث عنها كريشنا مورتي؟ هل سنتمكن فعلاً من تجاوز تلك المرآة والمرجعية؟ أشك في ذلك.
تماماً، كما في منظومة العنف، منظومة الألم. يحق لأي منا أن يحتج على انتمائه إلى هذا القرن. قرن التحولات في منظومات الدول المتقدمة، وقرن تعميق التراجعات في منظومات الدول المتخلفة والقمعية بامتياز، تلك التي تصدِّر العنف والألم ولا تفقه غيرهما.
لا أحد يمكنه إن يرفع سبابة احتجاج أمام مقولة الشاعر السوري، محمد الماغوط: «نعم دخلنا القرن الحادي والعشرين؛ ولكن كما تدخل الذبابة غرفة الملك». تماماً هو الحال الذي يرتجي فيه أحدنا أن تسعفه مرآة أو مرجعية في انهمار العنف وحصار الألم
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3407 - الأربعاء 04 يناير 2012م الموافق 10 صفر 1433هـ
كلام من ذهب..
كلام من ذهب ويحتاج الى قراءة متانيه من الكاتب المبدع حقاً..
مقال روعة
مقال في غاية الروعة يحمل في طياته خوف ممارس العنف ضد أخيه الانسان ومعاناة الآخر لعدم وجود القوة لرد كيد ممارس العنف ضده!!!.