في الوقت الذي يشكك فيه أنصاف المثقفين والطارئين على العمل السياسي والصحافي ما ستئول إليه انتفاضات الربيع العربي، ينكب على الضفة الأخرى باحثون آخرون لدراسة هذه الظاهرة بجدية في سماتها ومآلاتها، مغزاها وأهدافها ومقارباتها. من هؤلاء الباحث المصري نادر فرجاني فهو لا يحلل استناداً إلى الرهاب من «الإسلام السياسي» على رغم نقده الحالة التي ينشط فيها، كما أن تحليله للربيع العربي، لا يجتزئ الحقائق ويبترها، لا ينتصر لثورة ويقف ضد أخرى، إنما يركز على عناصر الواقع ومعطياته سواءً اتفقنا معه على الاستنتاجات أم اختلفنا.
استفزني تعبيره أثناء جلسة عصف ذهني جمعتنا قبل أسابيع حين ذكر أن البحرين تمر بمرحلة «تململ وحراك تحرري»، الأهم لم يستثنها عن سياق ربيع العرب، طلبت منه شرحاً وافياً، فجاء تحليله للحظة التاريخية التي تمر بها مجتمعاتنا العربية كما يأتي:
فرجاني مقتنع حد اليقين أن ما تمور به بلداننا ما هو إلا مد تحرري غاياته الحرية والعدل والكرامة وقائم على انتفاضات شعبية مبهرة، غلبت عليها السلمية والرقي الحضاري، وطليعتها ونوار شهدائها ومصابيها الشبيبة المهمشون. يقول: إنه من حسن الطالع قيام علاقات تقدير متبادل ودعم متواتر ولو عن بعد بين الانتفاضات الشعبية الأربع في «تونس، مصر، ليبيا، واليمن» وبين إرهاصات الانتفاضات العربية الأخرى، فجميع الطغاة يرتكبون كل أخطاء من سبقوهم ولا فكاك من ثورة الشعب، بيدَ أن الثورة وإن حققت نجاحات أوليّة قد تتعرض برأيه للاختطاف أو الإجهاض.
هذه فحوى دراسة له ركز فيها على محورين أساسيين: الأول يتعلق بسمات المد التحرري العربي واحتمالات تطوره، أما الثاني فهو احتمالية انقلاب الربيع العربي إلى شتاء قارس. في المحور الأول حدد قوة المد ومراحل العملية التحررية بسبع مراحل متداخلة في حدودها ومضامينها، وأشار إلى عدم ضرورة الانتقال من مرحلة إلى أخرى بسلاسة ويسر، فربما تبرز نقطة انكسار محتملة لسلسلة قد تعصف ببقية المراحل.
وصف المرحلة الأولى بالركود أو الاستقرار القلق، أو مرحلة ما قبل الحراك التحرري، وهي حالة من الاستقرار الشكلي الساكن المفروض على الشَّعب بالقوة الناعمة «كالرشوة المالية، والإعلام المدار» أو العنفية «البطش البوليسي»، المصاحبة للقهر وانتهاك حقوق الإنسان، وتزاوج السلطة بالثروة وانفلات الرأسمالية الاحتكارية المؤدية إلى الإفقار المطرد واستشراء البطالة والفقر وسوء توزيع السلطة والثروة، وعليه ينعقد الأمل في قيادة التغيير على قوى الشَّعب المتضررة من هذا الوضع، فهي صاحبة مصلحة التغيير، ووفق النظرية الماركسية قيادة التغيير تناط بالطبقة العاملة، بينما ينزع الفكر الليبرالي إلى إضفاء المهمة إلى الطبقة الوسطى، وهنا يناقش إشكالية هاتين الخلفيتين. كيف؟
بدءاً، يتحفظ منهجيّاً على مواءمة وكفاية التحليل الطبقي التقليدي لوصف وتفسير التغيير المجتمعي في العالم الثالث عامة والبلدان العربية خاصة، أسبابه لذلك تتعلق بملكية عناصر الإنتاج ومعايير تكوِّن الطبقات وحجمها، ولأن الطبقة العاملة لم تتمكن من إقامة تنظيمها السياسي المستقل، ولاسيما أن العمال محرومون بالمطلق من التنظيم النقابي في بعض البلدان العربية والخليجية وبعضها يمثل فروعاً لتنظيمات شكلية ليس إلا. بشأن الطبقة الوسطى يشير إلى بعض الكتابات الرومانسية التي منحت موقعاً محوريّاً لهذه الطبقة فحمَّلتها عبء حركات النهضة والتعليم والتدريب وتشكيل الوعي العام والنوعي والارتقاء بالذوق العام...الخ، وما حالها برأيه إلا حال فئة المثقفين، تتأرجح في موقع قلق بين الانتماء إلى الشعب والنضال من أجل الحرية وبين ما يحمله هذا النضال من مغانم من ناحية، وخدمة دوائر القوة «السلطة والثروة» وتدويم الراهن، وما يجلبه من مغانم آنية من ناحية أخرى. أضف إليها أن مزيج الإفقار والقهر الذي تذيقه الأنظمة للناس أضعف من فعالية دورها التغييري المحتمل.
إذن مسيرة الحرية/ النهضة العربية كما يستنتج، لا يمكن ولا يجب إيكالها إلى شريحة اجتماعية معينة، ذلك لأن كل شريحة اجتماعية تضم عناصر فاعلة وخاملة من الشباب في منظور الحس الوطني والرغبة النضالية وتحمل تكاليفها، من هنا الطبقة العاملة والوسطى كلاهما تعانيان من أزمة حادة في الدور التغييري تكاد تجهز عليه، والإمكان التحرري الأكبر يسكن في نظره بتحالف ينشأ رأسيّاً في منظور التقسيم الاجتماعي بين العناصر الفاعلة في الشرائح الاجتماعية كافة وبالاستخدام الكفء لتقنيات المعلومات والاتصال الحديثة وبدور الرابط عبر التقسيمات الرأسية للبنية الاجتماعية في أشكال من التنظيم الشبكي غير القاصر على الأشكال الهرمية التراتيبية التقليدية.
التململ التحرري هو المرحلة الثانية التي تعبِّر عن تبلور شعور بعدم الرضا الشعبي وتنطوي على وجود إمكان احتجاجي ولو جنيني، وغالباً ما يأخذ فعل التململ أشكال التعبير النقدي في حدود القنوات المسموح بها من تجمعات شعبية «مساجد، ديوانيات في دول الخليج»، أو وسائل إعلام قائمة، وكتابة عرائض وتظلمات للسلطات الحاكمة، وقد يتصاعد التعبير عن عدم الرضا لحد المناداة بأشكال الفعل الاحتجاجي عبر تقنيات المعلوماتية والاتصالات الحديثة وبدء ظهور أشكال جنينية من التظاهر والإضراب والاعتصام.
أما المرحلة الثالثة؛ ففيها تتبلور أشكال من الفعل الاحتجاجي كالتظاهر والإضراب والاعتصام وإن بدأت جنينية ما تلبث أن تتصاعد ويتسع نطاقها، وتستعمل تقنيات المعلوماتية والاتصالات الحديثة في الدعوة إلى الفعل الاحتجاجي وضمان التئامها وتواصلها. كما يصف المرحلة الرابعة بمرحلة «الانتفاضة الشعبية، مرحلة الحسم»، حيث يتصاعد الفعل الاحتجاجي ويستمر ولو بصورة متقطعة عبر فترة ممتدة من الزمن، ما يستدعي رد فعل النظام وغالباً ما يكون قمعيّاً وتهوينيّاً في الوقت نفسه، وقد تتأرجح الانتفاضة إلى مكانة بداية «ثورة شعبية» بتصاعدها واتساع نطاقها وتحقيق بعض أهدافها، بيد أنها قد تفضي إلى انكسار للمد التحرري ولو لحين وتحوله إلى صنف من الحروب الأهلية المدمرة. هنا يؤكد نادر فرجاني ميل أنظمة الحكم التسلطية إلى التصرف بالطريقة المعيبة ذاتها «كاتهام قوى الثورة بأنها مأجورة تعمل لصالح قوى خارجية، ومواجهتها بالقمع المفرط والبطش أو بالمماطلة» مشيراً إلى فشلهم في تعلم الدروس كون الثورات تنفخ في الشعوب روحاً مناضلة جديدة وعزيمة لا تلين ووحدة تتطلع إلى الحرية والكرامة.
ويحدد المرحلة الخامسة ببداية نجاح الثورة الشعبية بإسقاط رموز النظام، صحيح أن عنف السلطة ووقوع ضحايا وتجاهل الاحتجاجات والمطالب المشروعة والبطش الأمني والتسويف يساهم في تأجيج وتيرة الفعل الانتفاضي واتساعه، إلا أن النجاح الأولي للثورة قد يفضي من وجهة فرجاني إلى «حالة استعصاء ومغالبة» قد تتعرض لها الثورة، ومع ذلك فدخول حالة الاستعصاء لا يعني انتهاء الحراك التحرري من دون طائل، هنا قد يصل النظام إلى حالة الوهن تحت ضغط الداخل والخارج، تجعله مستعداً للتنازل وتقديم إصلاحات طالما رفضها، وهذا في المقابل يتطلب يقظة واطراد للفعل الضاغط على السلطة الانتقالية. وحين البدء بعملية الإصلاح لابد من ضمان أن يكون شاملاً جادّاً وعميقاً، ومنه تبدأ المرحلة السادسة التي تتطلب وضع دستور جديد وانتخاب مجلس تشريعي ورقابي مركزي ومحلي، كذلك انتخاب المسئولين التنفيذيين مركزيّاً ومحليّاً انتخاباً حرّاً ونزيهاً، أما المرحلة السابعة فهي مرحلة الاستقرار الخير في ظل الحرية والعدل، ما يؤدي إلى تأسيس مسار النهضة الإنسانية.
خطر احتمالية انقلاب الربيع العربي إلى شتاء قارس كان المحور الثاني من دراسة فرجاني، وسببه غلبة «تيار الإسلام السياسي المتشدد» في الساحة السياسية وفي المجالس التشريعية الجديدة بعد الثورة، ما يسمح بتشكيل محتوى الدساتير الجديدة والقوانين المشتقة منها بما يتفق وتوجهاته السياسية التي لا تستقيم مع إسلام العقل والعدل كما تنص المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية وليس أحكام الفقه المتشدد بالانتقاص من الحقوق المدنية والسياسية للنساء وغير المسلمين، وتطبيق الشريعة بالمفهوم الشكلي في الحدود، وحماية العفة الظاهرية «التحجب، والحشمة في اللباس ومنع الخمور...الخ». هنا يبين أن انقسام فصائل التيار الإسلامي المتشدد وغيرهم في حالتي «مصر وتونس» المتقدمتين على مسار التحرر سيؤثر على فرص النهضة الإنسانية في الوطن العربي، وما يزيد من الخطورة إيمان هذه الفصائل بالأمة الإسلامية العابرة لحدود الدول القومية ومتمرسة في «الجهاد» عبر الحدود الدولية.
الخلاصة، على رغم توجس فرجاني من خطورة التأثير السلبي للإسلام السياسي المتشدد فإنه لم ينكر على الشعوب انتفاضتها ورغبتها في الحرية والانعتاق من التسلط والفساد، لم يكن انتقائيّاً في وصفه وتحليله للمد التحرري العربي من المغرب إلى المشرق، بيد أن دراسته بحسب رأيي المتواضع بحاجة إلى استكمال فيما يتعلق بمجتمعات الخليج العربي، والنظر إلى تأثير الإسلام السياسي بمذاهبه ولاسيما في إطار صراعات القوى الإقليمية
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3406 - الثلثاء 03 يناير 2012م الموافق 09 صفر 1433هـ
اين؟
اين تقع البحرين ؟
منظروهم ومنظروننا مفكروهم ومفكروننا ؟؟؟؟
بالمس قال أحدهم قولة مفكر ومنظر بل وحكيم ربيعنا سبق كل ربيع ومضى عليه عقد من الزمان
يبدو ان الربيع الذي فهمه خلاف ما فهمه الاخرون
وكما يبدو انه يرى الربيع فيما سقط عليه
من ثماره ومنع ثماره على الخرين
لكنكم لا تقدرون مفكريكم ومنظريكم عل قاعدة
( مغنية الحي لا تطرب )