كل شيء بطعم الكارثة. هل للكارثة طعم؟ طعمها ألا ترى في كل ما/ من حولك أي معنى أو جدوى. طعمها أن تكون رهنا لكل شيء، وتكاد ألاَّ تتعرف حتى على ما يدل عليك. طعمها أن تنعدم لديك الحواس كلها وليس حاسة التذوق فحسب. هل أبدو متشائماً؟ وهل ثمة ما يدل على التفاؤل أصلاً؟ لكن هل يعني ذلك أن يستسلم كل منا إلى ترك حواسه نهباً للكوارث من حوله؟ ربما نذهب إلى الحدود المسننة والحادَّة في الوقت نفسه من الشعري الغائب فينا، والمغيَّب في تفاصيلنا لنهمس ولو فرادى ترديداً مع الشاعر الفلسطيني الكوني الراحل محمود درويش في نصه: «على محطة قطار سقط عن الخريطة»: «لا شيء يرشدني إلى نفسي سوى حدسي». الحدس: الجهة الاحتياط المفتوحة أمام كل واحد منا حين تعز عليه المخارج ونذهب إلى ما بعد ندرتها؛ إن لم يكن عدمها.
***
حدس كل منا - بحسب يقظته وتربيته للتفاصيل من حوله - بمثابة جرس التنبيه إلى إمكانية خروج كل منا ربما من ليله المقيم والمؤبد؛ أو من وهمه الذي بات يرافقه رفقة دمه أكثر من ظله. للظل استراحته في تعاقب الوقت، ولا راحة للدم في الأوقات. حدس له حاسة وفطنة واستشعار والحنين المقيم في الحمام الزاجل يوم أن كان الاتصال بدائياً والمخيلة البشرية كانت في طور التشكل في انعدام حولها وقوتها واختراع منافذ الوصول إلى ما يخفف شراسة العناء.
بوصلتنا الحدس حين تنصب المتاهات لنا كما تنصب الكمائن والفخاخ للطرائد. نبحث عن منجاتنا في ليل أو شائعة ضوء، لا فرق.
ومن حسن حظ الإنسان، حظه المتبقي؛ أو حتى ما يدل عليه أنه لم ينجُ من الحب وإن عصفت وهيمنت واحتلت الكراهية كل الميادين من حوله؛ لكنه يظل قادراً على خلق واجتراح ميادينه العامة الافتراضية التي يترك عبرها الحب فرصة أن يلوح بنبضه في وجه وكلاء الغل، ولا شيء أكثر قدرة على الأخذ به إلى توثيق وتأكيد ذلك الحظ وحسنه في الحب، لا شيء أكثر من انتباهة الحدس.
***
ربما نعاني بطئاً في الحب؛ لكننا لا نملك طريقاً إلى الوصول إلاَّ عبره. على أقل تقدير، البطء دليل قلب مازال يخفق، ويظل أكثر رحمة بالحياة وبنا وحتى بكل الأشياء من عدمه أو تواريه. وحدسنا هو بالضرورة من يعلمنا كلما انهمرت علينا الكآبات والكوارث ووحشة النأي، أن نسرع الخطى لإنقاذ ووصل ما تقطع وتم تفتيته من أواصر قربى أو حنين يكاد يدخل في الرمق الأخير من معناه وقيمته.
***
يدرك كل واحد منا معنى أن يفقد أو يفتقد حدسه. إنه برسم افتراض حضوره ووجوده. لا شيء يدل عليه. لا شيء يدل على أنه في الصميم والقيمة من الحضور. يتحول إلى رقم كأي رقم في إحصاء الأشياء. ولكي نحيل طعم الكوارث الكريه من حولنا - ما بدأت به المقال - إلى عسل ننتخبه، يحتاج كل منا إلى أن ينتصر على مراراته والكوارث تلك. والانتصار ذاك لا يتأتى بالتمني؛ أو كبسة زر؛ بل بفصاحة مواجهة تلك المرارات والكوارث، وبلاغة القدرة على الوقوف في وجه تفخيخها أو تنغيصها الحياة وإحالتها إلى مختبر للعنة. لعنة استسلامنا لها.
***
ومثلما لكل كيان إرشادات وتعليمات لمنجاته في اللحظات الفاصلة والأوقات الحرجة؛ لا شيء أكثر قدرة على تحديد خريطة وأفق المنجاة، حين تدلهمُّ الخطوب وتترى، من حدس يسكن صاحبه. حدس لا يمنحك إياه غياب؛ أو حضور أنت بمنأى عنه. تمنحك إياه قدرتك على تعميق حضورك، ودرء الغياب الذي يترصدك. لكأن كل حدس حضور. لكأن كل غياب نفي له
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3404 - الأحد 01 يناير 2012م الموافق 07 صفر 1433هـ