لقد طرح المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي الذي انعقد في مدينة دبي الجميلة من 7-5 ديسمبر/ كانون الأول 2011 التساؤل المهم والمحوري في المنطقة العربية في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة ماذا بعد الربيع؟

ولا أدري إذا كان طرح السؤال إيذاناً بأن مرحلة الربيع العربي قد انتهت وأن مرحلة جديدة قد بدأت أو على وشك البدء خاصة في الدول ذات النظم الجمهورية؟ وأن هذه المرحلة الجديدة تعد مرحلة البناء في هذه الدول أو في المنطقة ككل؟ أو أنه يمكن أن يطلق على المرحلة الجديدة أنها مرحلة وقف المد الثوري من أجل التغيير؟ أو يمكن أن نطلق عليها مرحلة التوقف وربما التراجع بخطوة للخطف عبر اختطاف الثورات من قبل قوى سياسية وطنية مدعومة بقوي إقليمية أو خارجية؟ والإجابة على مثل هذا التساؤل ليست سهلة بل هي جد عسيرة وصعبة لاعتبارات كثيرة لا مجال للحديث عنها في هذه اللحظة التي يشيع فيها قدر من التفاؤل ولو الحذر، وقدر من القلق، وقدر من الأمل، وأحياناً قدر من عدم العقلانية وقدر من عدم التفكير الموضوعي العلمي.

ولعل من دلائل ذلك أن الحشد من المفكرين والسياسيين والباحثين في المؤتمر السنوي العاشر لمؤسسة الفكر العربي لم يتعرض أي منهم إلى الإجابة على السؤال الذي كان عنوان الندوة بل يمكن القول إن كل مشارك في المؤتمر قال ما لديه من رأي ثم حمل عصاه ورحل دون أن يعطي التساؤلات التي طرحها منظمو المؤتمر في ورقتهم أو بالأحرى في برنامج المؤتمر وأجندته أي قدر من التفكير أو محاولة التفكير في الإجابة على التساؤلات. وبقدر من الموضوعية أحاول أن أشرح بعض الأسباب التي قادت لهذه الحالة وهي تتمثل في أربعة أسباب رئيسية:

الأول عدم وجود أوراق بحثية متعمقة من قبل المشاركين وحتى الأوراق القليلة التي قدمها بعض المشاركين وزعت أثناء الاجتماعات كما لو كانت نشرة صحافية إعلامية خارج قاعة المؤتمر ولم يهتم بها أو يرَها كثير من المشاركين.

الثاني سيطرة الطابع الإعلامي على جلسات المؤتمر فكان الإعلاميون هم الذين يديرون الجلسات وبعضهم جاء ووراءه قناته الفضائية وأعلن صراحة أن الجلسة للتسجيل للقناة وأن القناة لها قواعدها في العمل وكان ذلك رداً على تساؤلات من الحاضرين في القاعة لعدم إتاحة الوقت الكافي للنقاش من جانب الحاضرين.

الثالث نتيجة للثاني وهي سيطرة المنهج الإعلامي الخاص بالتوك شو سواء في جلسات المتحدثين وتنظيمها أو في مداخلاتهم الموجزة دون أن يكمل بعضهم فكرته الرئيسة وهذا كله لا غبار عليه إذا كانت توك إعلامي، إما إذا كان مؤتمراً علمياً لفكر ومفكرين فإنه أمر مختلف، وأنا أعرف أن هذا كله تحت تأثير التطور الإعلامي الأميركي في منهج التوك شو منذ الربع الأخير من القرن الماضي وانتشر أكثر بعد تجربة دافوس الشهيرة ولكن الفكر شيء والتوك شو والإعلام أو الحديث الفكري العلمي شيء مختلف.

الرابع أن بعض الشخصيات السياسية التي شاركت تم التعامل معها بمنهج التوك شو نفسه، وقبلت ذلك لأسباب تتعلق بها وبتواجدها الإعلامي، في حين شخصية معينة واحدة أعطيت لها المنصة كاملة لتقول ما تراه في إطار الحديث عن سياسة حكومته ونقده غير المباشر لمعارضيه دون ذكرهم بالاسم ولكن كان المعنى والمضمون والرسالة واضحة.

ونقول إن هذه الملاحظات لا تقلل من أهمية وقيمة والمؤتمر، ولعل من قبيل الموضوعية أيضاً أن أشير إلى أربع ملاحظات ذات مغزى:

الأولي تبلور نخبة عربية من أصحاب السلطة تهتم بالفكر وبالمفكرين والاستماع إلى وجهات نظرهم وهذا يبعدهم قليلاً عن الأجهزة الإدارية والبيروقراطية الرسمية التي تعطي الصورة الوردية دائماً ومن هنا أشيد بالنسبة لهذا المؤتمر ولهذه المؤسسة بدور سمو الأمير خالد الفيصل على مبادرته وعلى استمرار تواجده في القاعة معظم الجلسات والاستماع لمختلف الآراء، كما أشيد أيضاً بسمو الأمير تركي الفيصل على مساهماته الثاقبة وبتواجده واستماعه بتواضع إلي مختلف الآراء.

كما لا يفوتني أن أستذكر سمو الأمير الحسن بن طلال الذي كان له فضل السبق في التفاعل كمسئول مع رجال الفكر منذ إنشائه في الثمانينيات من القرن الماضي منتدى الفكر العربي واستمراره في رعايته والمساهمة فيه بفكره وبحضوره وباتصالاته الدولية والإقليمية والتجديد في أطروحاته وممارساته ما جعل للفكر والمفكرين العرب مكانة على الساحة الفكرية الدولية.

الثانية الشكر لمدينة دبي وراعيها وحاكمها سمو الشيخ محمد بن راشد الذي كان حريصاً على التواجد في أكثر من جلسة وعلى تقديم جميع التسهيلات والعناية بالمؤتمر.

الثالث الإشادة بالجهد الكبير الذي بذله الأمين العام للمؤتمر سليمان عبدالمنعم والأمين العام المساعد لشئون المؤتمرات حمد عبدالله العماري، وجميع مساعديهم من سكرتارية وفنيين وإداريين وعلاقات عامة وغيرهم على دقة التنظيم الرائع، وهو ما يثبت أن العرب قادرون على عقد المؤتمرات الدولية التي أصبحت صناعة لا تقل أهمية عن غيرها من الصناعات وتدر عوائد قيمة من الدخل للبلاد التي تعقد فيها وللمشاركين والعاملين

وهذه التجربة الرائعة أيضاً تبناها منتدى الفكر العربي الذي يعتمد على منسوبيه وعلى العناصر العربية في تنظيم مؤتمراته منذ زمن وهذا أبلغ رد على من لا يثقون في القدرات والكفاءات العربية ويفكرون دائماً في الأجنبي ويغدقون عليه الأموال ويعتقدون أنه قادر على صنع المعجزات وأن لديه حلول المشاكل - رغم أن هذا الأجنبي يعمل أجل مصالحه وأجندته - سعياً منهم لإنجاح أي مؤتمر يعقدونه وخوفاً من الاعتماد على العرب أو أبناء وبنات الوطن نفسه.

وفي تقييمنا المبدئي للربيع العربي في إطار نهاية العام نقول إن أي تقييم موضوعي لابد أن يحسب الأرباح والخسائر والرابحين والخاسرين بعيداً عن الفكر الرغائبي أو عن النظرة غير الواقعية.

والتقييم العام من وجهة نظري يتمثل في أن الربيع العربي لم ينتهِ بعد، ليس بمعنى استمراره، كحالة من حالات الربيع الجميل الذي يدخل البهجة والسرور على النفس العربية المكلومة والمأزومة، والذي قال عنه الشاعر العربي في العصر العربي الوسيط البحتري:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

ولكن نقول إن ثمة افتراضين أولهما أن الربيع العربي انتهى بالفعل من حيث الجغرافيا السياسية وهذا افتراض أقرب إلى الواقع والثاني أن ثمة حاجة لإعادة تقييم الحساب أي لعملية جرد للخسائر والمكاسب في نهاية العام الميلادي ونحن نستقبل العام الجديد 2012 حتى يتبين الأمر بنظرة واقعية وموضوعية وهذا يفيد صانع القرار السياسي العربي والنخب السياسية والدينية بل وجميع أفراد الشعب وقوى المجتمع المدني.

وفي تقديري أننا ندخل في مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها مصطلح مرحلة الضعف العربي العام أو التهميش أو مرحلة بيات شتوي عربي جديد. ذلك لأن الدول التي وقعت فيها تغيرات أو على وشك أن تتم فيها التغيرات مهما تأخرت والنتيجة الأولى أصبحت تلك الدول تعاني من الضعف المتزايد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً بل من حال من التفكك والفوضى الأمنية والعسكرية والسياسية ويمكن أن نطلق عليها خطوة واحدة للأمام وخطوتين للخلف وهذا ترتب عليها مزيد من الضعف للأمن القومي العربي، بل لأمن كل دولة من الدول التي حدثت فيها التغيرات، وهذا لا يعني أنه كان يجب ألا تحدث مثل هذه التغييرات بل العكس كان يجب أن يحدث في تلك الدول الجمهورية التي عانت شعوبها من الفساد الرهيب والاستسلام المخزي الذي قام أحياناً على خداع النفس باسم المقاومة والممانعة أو باسم الواقعية أو غيرها من المسميات التي أجادها فلاسفة السلطان من لغة الضاد ومن قانون مرن مطاط وفلسفة عبثية لا تدقق في معاني المصطلحات العلمية وانتهجت تلك النظم الاستغلال لشعوبها وقمعها لمصلحة نخبة صغيرة فاسدة وإفقار دولها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وتعليمياً وتكنولوجياً فلا أسى عليها ولا أسف فهي نظم استنفدت أغراضها وتحولت للوراثة غير المشروعة لأبناء الرؤساء في النظم الجمهورية والنتيجة والنتيجة الثانية بعد حدوث هذا الربيع هو تحول تلك الدول الجمهورية من العراق وسورية واليمن ومصر وإلى حد ما ليبيا وتونس إلى صراعات طائفية ودينية وثقافية ومجتمعية وقبلية وهذا ما دعاني للقول إنه سيتم تهميش هذه الدول أو بالأحرى مزيد من التهميش لها على الساحتين الإقليمية والدولية