إن القصة السورية التي استحضرنا تفاصيلها في المقال السابق (الأربعاء)، هي في نهاية المطاف تحكي قصة شعب يتطلع إلى الحرية والعدالة والديمقراطية، ومن حق هذا الشعب أن يلجأ إلى كل الوسائل السلمية لممارسة الضغوط المختلفة على النظام والاستجابة لأهدافه وتطلعاته.
الزوج (الضابط) هو بالمقاييس السياسية والوطنية (وليس الطائفية) هو مواطن آلمه وأحزنه ما يتعرض له شعبه من قتل وانتهاكات صارخة لحقوقه الإنسانية، وحز في نفسه أن يرى «الجيش الوطني» الذي يفترض أنه يدافع عن أمن وحدود الوطن، يتم توريطه في مهمات داخلية لضرب أو قمع المتظاهرين السلميين، وهو ما يعني النيل من سمعة هذا الجيش والحط من مكانته! وكذلك استفزته مشاهد التعذيب والاهانات المتكررة التي يتعرض لها المواطنون السوريون في السجون وغيرها من المواقع.
هذه المواقف لا يمكن لأحد أن يناقش في صوابها وعدالتها ووطنيتها إلا أن هذا (الضابط) لو تعامل مع هذه القيم والأحداث في بلده من منطلقات طائفية، وأنها هي التي أجبرته على التمرد أو الانشقاق، وبالتالي أجبرته على حمل السلاح لمقاتلة جيش وطنه وقتل إخوته وزملاءه لمجرد أنهم من طائفة غير طائفته، يكون بذلك قد ارتكب جريمة كبرى، ويكون بذلك قد خان وطنه وخان شعبه وأساء إلى قضيته العادلة.
أما زوجة الضابط هي أيضاً بالمقاييس الوطنية (وليست الطائفية) هي مواطنة وإنسانة تخاف على بلدها وعلى شعبها، ومن حقها أن تحب النظام وترى فيه حماية لهذا الشعب ووحدته الوطنية، ولكن هذه الزوجة ترتكب خطيئة كبرى إن هي سايرت النظام في كل سلوكه القمعي والاستبدادي تجاه شعبه، أو قامت بالدفاع أو تبرير كل سياساته وانتهاكاته لكل الحقوق الإنسانية لمجرد أنها تنحدر من طائفته.
إن المسألة تتحول هنا إلى «عمالة» وإلى «انحياز» طائفي عائلي وعشائري ظالم ليست له علاقة بمصلحة الوطن أو المواطن.
إن الرؤية السياسية الوطنية العادلة (وليست الطائفية) هي التي تجعلنا نقف إلى جانب الشعب السوري في المطالبة بالإصلاح والتغيير، بل إلى جانب كل الشعوب العربية المطالبة بالحرية والعدالة الرافضة للاستبداد وللدكتاتورية، والمصلحة الوطنية والقومية هي التي تجعلنا أيضاً نطالب القيادة السورية بسرعة الاستجابة لمطالب الشعب المشروعة، من أجل حماية سورية نفسها، وقطع الطريق على محاولات جر البلاد إلى حرب أهلية ومنع التدخلات الخارجية المعادية والمتربصة بسورية.
هذه المواقف المبدئية هي أيضاً التي تجعلنا في حالة من الدهشه والاستنكار لبعض المواقف «المتشنجة» تجاه الأوضاع في هذا البلد العربي، التي تحركها النوازع الطائفية، بعيداً عن أية قيم وطنية أو قومية كما تدعي! لذلك لسنا نفهم كيف يمكن أن يستقيم موقف مساندة وتأييد ثورة الشعب السوري ومناصرة كل تحركاته وشعاراته المطالبة بإسقاط النظام، وخاصة أننا نعرف أن بعض تلك التحركات قد صاحبها استخدام السلاح من جانب قوى المعارضة وحصول أعمال قتل على الهوية؟ وكيف لنا أن نفهم دعم قوى سياسية معارضة تطالب بالتدخل الدولي والقيام بعمل عسكري من أجل الإسراع بإسقاط النظام، نقول كيف يستقيم كل هذا، في الوقت الذي نرفض فيه مجرد تظاهرات سلمية تطالب بالإصلاح والديمقراطية، والدعوة إلى إنزال مختلف وأقصى العقوبات على المشاركين في هذه التظاهرات من اعتقال وفصل من الوظائف وقطعاً للأرزاق.
كيف يستقيم ذلك مع اتخاذ مواقف موتورة، بل ومعادية ضد قوى معارضة تدعو إلى قيام دولة مدنية ديمقراطية وتطالب بالكرامة والمساواة للجميع؟ وقد أعلنت بكل وضوح أنها مع الإصلاحات السياسية الحقيقية، وليست مع إسقاط النظام،؟ كيف لنا أن نفسر هذه المواقف المتناقضة، سوى هذا الحضور الطاغي للبعد الطائفي، لأن المعايير الوطنية والقيم الأخلاقية والإنسانية التي تنشد الحق والعدل ترفض مثل هذه الازدواجية! بغض النظر عن الظروف أو المكان الذي يشهد مثل هذه الحوادث والتطورات؟
فهذه المعايير والمبادئ هي التي يجب أن تحدد مواقفنا من هذا النظام أو ذاك، وهي التي تجعلنا نرفض وندين بطشه بشعبه وانتهاكاته لحقوقه وحرياته، مهما تكن هوية هذا النظام السياسية أو المذهبية، إن ما يهمنا في نهاية المطاف هو عدالة النظام وتجاوبه مع مصالح شعبه وليس دينه أو مذهبه.
إن الرؤية الطائفية لا يمكن أن تكون الخيار أو الطريق الصائب لأنها عاجزة عن تنظيم أي صراع أو خلاف في إطاره الديمقراطي السلمي، وإن الطائفية لا يمكن أن تكون جزءاً من الحلول للمشاكل والأزمات، بل هي في الغالب مع التسلط والاستبداد من الأسباب الرئيسية المحركة لتلك الأزمات، والباعثة على الفتن والاضطرابات!
عادة في المنعطفات التاريخية، وفي أوقات الأزمات تكون السياسة الوطنية والديمقراطية هي ذات قيمة تاريخية كونها قادرة على تقديم الحلول والتسويات، والتقدم بالمبادرات السياسية السلمية التي تخرج الوطن (أي وطن) من أزمته.
حال بلدنا البحرين ليس استثناء عن هذه الحقائق؛ فقد رأينا كيف أدى خلط الطائفية بالسياسية إلى تعميق الشرخ الاجتماعي، وكيف رأينا أن اللعب بالمشاعر الطائفية ومغازلة الجماهير الموتورة قد أدى إلى تآكل مجتمعنا وزيادة الاصطفافات الطائفية، ورأينا كيف اضطربت الدولة وأصبحت كأنها في حالة حرب، ليس مع الخارج، بل مع الداخل وصار إعلامها وخطابها بمثابة سيوف وخناجر تقطع جسد الوطن، وتحول القلم بيد بعض الكتاب والإعلاميين إلى معول هدم للوحدة الوطنية وزرع الكراهية، بين طوائف الشعب، وصار البعض الآخر منهم يستسهل استخدام وتداول بعض المصطلحات» و»المفاهيم» الغريبة والمليئة بالعنصرية والكراهية للطرف الآخر، مثل الحديث عن الشعب «المخلص» والشعب «الحقيقي» في مقابل آخر «خائن» وغير «مخلص»! وسط صمت رسمي.
إننا ندعو الجميع إلى التأمل مليّاً في النتائج المأساوية للقصة السورية التي جعلنا منها محوراً لحديثنا، ويبصر بعقل واع كيف تكون هي البدايات وكيف يمكن أن تكون النهايات المهلكة!
نحن جميعاً كمواطنين قد نكون في وضع الضابط، ومثله هناك الطبيب والمدرس والموظف والعامل، وكمواطنات ربما نكون مثل الزوجة، ومثلها هناك المعلمة والطبيبة والموظفة و»الإعلامية»، وهناك الآلاف من المواطنين والمواطنات في مواقع مختلفة، فهل أحد منا يتمنى أن يرى وطنه بهذا الوضع (لا قدر الله)؟ أو أن يرى أسرته أو مدينته تعيش مثل هذه الأوضاع الطائفية وتدفع أثماناً باهظة، ونزيفاً لا يتوقف، استجابة لغرائز طائفية مجنونة، وأحقاد لا مبرر لها على الإطلاق؟ أليس من الأجدر بنا أن نعي السياسات التي تحاول تأليب الناس ضد بعضهم، واستغلال البعد الطائفي لتخويف الطوائف من بعضها بعضاً وإثارة العداوات بينها!
إن أحد أخطر مظاهر الطائفية الذي قد لا يستوعبه أو يراه من هو واقع تحت تأثيرها، هو هذا الحماس الذي نلحظه عند البعض أحياناً بحجة الدفاع عن «الطائفة» لكن الحقيقة أن هذا الحماس في جوهره يحمل أضراراً كبيرة وخطيرة على الطائفة ذاتها وعلى أتباعها، فكل الحقائق والوقائع في المجتمعات التي أبتليت بمخاطر وشرور الطائفية تؤكد أن التعصب الطائفي لا يمكن أن يحمي الطائفة نفسها من التمزق والتشرذم، التي سرعان ما نجدها وقد تحولت إلى قوى وكيانات متناحرة بسبب المصالح والنفوذ لتلك الزعامات والقيادات المزعومة لهذه القوى؟
لاشك أن من يصر على سلوك طريق الطائفية بعد أن يعرف كل هذه الشرور التي يفرزها، أو يتعمد تجاهلها، لا يمكن الادعاء بأنه يبحث عن المسالمة أو المصالحة بين الناس، إنما هو يريدها حرباً مستعرة ومستمرة إلى يوم يبعثون!
لذلك سنراه يقف في وجه أية دعوة للإصلاح الحقيقي، وتغليب عوامل الفرقة على عوامل الشراكة الوطنية وسيتعامل بانتقائية مع لجنة تقصي الحقائق والتلاعب بتوصياتها، وسيعمل على عرقلة اللجنة الوطنية لتنفيذ هذه التوصيات، إذا جعلت أولوياتها عودة المفصولين، وعودة الطلبة إلى جامعاتهم ومدارسهم، والشروع في بناء المساجد ودور العبادة المهدمة، وسيطالب دائماً باستمرار الخيار الأمني وإفشال أية خطوة للحوار الوطني الحقيقي، وستكون أولوياته التمسك بما يعتقد أنها مكاسب قد تحققت له بسبب المحنة التي مرت بها البلاد، حتى وإن جاءته من باب ظلم الآخرين، وأكل السحت الحرام الذي يصلي البطون.
هذه هي الإستراتيجية المعلنة كما يبدو التي لا تقبل المساومة، أما «التكتيك» الذي يدعم هذه «الإستراتيجية» فهو الاستمرار في رفع عقيرته بالصوت والصراخ والادعاء بأنه الطرف المهمش، وأن هناك محاباة من السلطة للطرف الآخر على حسابه، وأن هناك تمييزاً واقعاً عليه في الوظائف وفي الخدمات والعطاءات؟ لذلك هو يطالب بالإنصات لشكواه، ويدعو إلى رفع الظلم الواقع عليه قبل فوات الأوان! وهذه قمة التراجيديا المضحكة
إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"العدد 3401 - الخميس 29 ديسمبر 2011م الموافق 04 صفر 1433هـ