سبق أن دعوت إلى ميثاق شرف إعلامي باعتبار أن حسن الكلام من الموضوعات المرعية في آداب التعامل بل هي من ضرورات الآداب العامة في السلوك الاجتماعي التي حث عليها الدين الحنيف منذُ القدم... ولعل من المثير للدهشة النظر إلى حجم التعليقات السلبية في مواقع الشبكات الاجتماعية وخصوصا لدى الشباب بشأن أي قضية يثيرها الإعلام فتتحول إلى كرة لهب تتقاذفها الأطراف المتصارعة لمجرد أن الآخر نختلف معه! هذه السطور بعيدة عن الوعظ الفونغرافي المباشر وتلامس البعد القيمي في عملية التواصل الاجتماعي.
القول الميسور: عندما نتتبع الكثير من الأقوال في موروثنا الثقافي والديني سنرصد زخما من النصوص الدالة على إطراء القول اللين اللطيف وأثره في النفوس، فالعرب تقول في أمثالها الدارجة «الكلام اللين يغلب الحق البين»، والإمام علي يقول: «من لانت كلمته وجبت محبته»، وجاء في الحكمة الصينية القول المشهور «إذا كان قلبك وردة فلابد أن يتلفظ فمك بكلمات عطرة»، والقرآن الكريم قبل ذلك كله شجع وحث على استخدام الكلام الرقيق الجميل قال سبحانه وتعالى «فقل لهم قولاً ميسوراً» (الإسراء: 28) و «ميسور» مشتقة من «يسر»، هي بمعنى الراحة والسهولة ويشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبة.
العفة بين الظاهر والباطن: إن الإطار اللفظي الذي نضع فيه كلماتنا هو في الحقيقة انعكاس لذواتنا وكما قال الإمام علي «تكلموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت لسانه»، بمعنى أن حسن الكلام واللباقة في الحديث مع الآخرين ليست مجرد كلمات تخرج من بين الشفتين ولكنها أداة دالة على مخزون القيم الذي يقف عليه الإنسان في حركته الاجتماعية فهو انعكاس الداخل على الخارج يقول الإمام الشافعي:
يخاطبني السفيه بكل قبح
فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما
كعود زاده الإحراق طيبا
والعفة اللفظية وان كانت من الأمور الظاهرة لكن تعاليم الدين تربطها بالأخلاق والضوابط باعتبار أن لها دلالتها النفسية ولها علاقة مباشرة بالداخل، وقد فصل الشارع الإسلامي الفوارق بين الغيبة والنميمة والبهتان والسخرية والتنابز بالألقاب والهمز واللمز... إلخ.
المشاحنات اللفظية: الكثير من العبادات تختزن مدلولات سلوكية راقية ومصممة لكي يمارسها الفرد وبشكل تطبيقي أي (بحسن الكلام) كما هو الحال في «شعيرة الحج» وفي شهر «رمضان المبارك» تلك التدريبات على حفظ اللسان تشبه الحلقات أو الدورات التدريبية التي تتم في معاهد الإدارة ومراكز التدريب العالمية لكنها متجذرة في الوجدان القيمي ومتترسة بالتعاليم الربانية لذا يجدر بنا التمعن في الفرق بين «الجدل والحوار»، فقد وردت كلمة «الجدل» في القرآن الكريم في سبعة وعشرين موضعاً، أما كلمة «الحوار» فوردت في ثلاثة مواضع؟ والحقيقة أن التوصيات الأخلاقية لا تقف عند حدود الجدل وأجواء الاختلاف مع الآخرين فقط، بل حتى في الدوائر الخاصة بالأقارب والأهل والأصدقاء فالمزاح مثلاً لا يجوز فيه الاجتراء على الشخصية الممازحة بتوجيه الإهانة لها واستنقاصها فيرد على المزاح بمثله فتتصاعد إثر ذلك المناوشات الكلامية فتنشأ حالة من التوتر والضغينة فيصبح المزاح ممارسة عدوانية أو سلوك غير سوي من الزاوية النفسية.
وبمراجعة سريعة لكتاب ابن القيم الجوزية «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» سنلاحظ فيضا جميلا من الكلمات ودرجاتها والتي تزيد على الخمسين لكل منها معنى متدرج ورقيق حيث حاول ابن الجوزية جمعها ويأتي في طليعتها: المحبة، الود، الخلة، الرسيس، الهوى، الصبابة، الشغف، الوجد، الكلف، الجوى، الشوق، الغرام، العشق، الهيام، الوله... إلخ. هذا التقسيم للمفردات الراقية لا وجود لها في اللغات الأجنبية حيث انفردت اللغة العربية بدقة البيان وإصابة المعنى وغنى المفردات. ولقد علق أحد الأدباء: «أنه لو اطلعت الزوجات في البلاد الأجنبية على جمال مفردات اللغة العربية وتقسيماتها من الحب لشاقهن أن يتعلمن العربية ليعرفن مواقعهن عند أزواجهن».
الجانب الاجتماعي والجانب الوجداني: يمكننا التقاط ذكاء وروعة الموقف في كتاب «وفيات الأعيان لابن خلكان»، بحيث نقدح عبق الماضي لنكشف ونبوح بذلك التناغم في ثنائية الاجتماعي المعلن والوجداني المخبأ في المشهد التاريخي التالي:
فقد ذكر أن أعرابيا وفد المدينة فسأل عن أكرم الناس بها فدل على الإمام الحسين سبط الرسول الأكرم فدخل المسجد فوجده مصليا فوقف بإزائه وانشأ:
لم يخب الآن من رجاك ومن
حرك من دون بابك الحلقة
انـت جواد وانـت معتمد
أبوك قد كـان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من أوائلكم
كانت علينا الجحيم منطبقة
قال: فسلم عليه الإمام الحسين وقال: يا قمبر هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار فقال: هاتها فقد جاء من هو أحق بها منا ثم نزع بردية ولف الدنانير فيها وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي وانشأ:
خذهـا فـإني إليـك معتذر
واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصا
أمست سمانا عليك مندفقة
لـكن ريـب الزمان ذو غير
والكف مني قليلـة النفقة
قال: فأخذها الأعرابي فبكى فقال له الأمام الحسين: لعلك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا ولكن كيف يأكل التراب جودك؟
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3400 - الأربعاء 28 ديسمبر 2011م الموافق 03 صفر 1433هـ
على الدنياء السلام
نشكرك على هذيه المقاله,ولكن يا اخينا العزيز اليوم القلم الموزون والسان المستقيم والبعيد عن الطائفيه اصبح لايغني عن طالبي الجاه وملئ الحسابات في البنوك والسكن في أفخم الفلل مع ركوب السيارات الفاخرة.
جعلك الله من المتطهرين
كلام رائع وكم أحوجنا إليه...فطهارة ورقي المجتمع يقاس بإشاعة العفة والطهر في القول والفعل، ويبدأ ذلك من البيت.
لقد كبرنا ونحن لا نفقه معاني الكلمات البذيئة فأحيانا كنت أصير أضحوكة بين الناس، وأفتخر بنفسي،
فالأم العفيفة والأب الورع لا يستخدمان ولا يسمحان بذلك، لذا علينا جميعا تطهير ألسنتا من الفحش وكذلك تربية أبنائنا وتذكيرهم ومتابعتهم شكرا...لكم