ربما نجد ونحن نعيش لحظات وأوقاتاً حرجة تكاد تطول عدداً من الدول العربية والإسلامية، في السِفْر التاريخي «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، صدى لتأسيس الممارسة. أعني بها ممارسة التمييز والقتل على الهوية؛ وخصوصاً في الفتنة التي عاشها العراق لمدة قرنين من الزمان بين مُكونَيْه الرئيسين (السنة والشيعة)، تم فيها حرق المكتبات والمساجد والبيوت وأحياء بكاملها، إضافة إلى الأملاك الخاصة. وهي فتنة بالمناسبة لم تكن الدولة وقتها بمنأى عن شرارتها الأولى، ولم تكن بريئة من أسباب قيامها إنْ بشكل أو آخر.
ألجأ إلى شاهد تاريخي لأدلل على أن متوالية الممارسة في جزء من العالم آلت فيه السطوة والسلطة والقوة والقمع والاستملاك. استملاك كل شيء، بدءاً بالهواء وليس انتهاء بآخر همها (الإنسان)، إلى مجاميع متسلطة أو من المحسوبين عليها، لم يطرأ تغيير يذكر في صور أو تفاصيل الممارسة تلك؛ على رغم التحوُّل البشري الذي تراكم، والتطورات التي استجدَّت؛ إنْ على مستوى المعارف والوسائل، أو على مستوى ما ينظم تلك المعارف والوسائل وما يرتبط بهما.
لا جغرافية ضمن حدودنا المرسومة بمنأى عن تجييش وتهييج وشحن المكوِّنات لضرب بعضها بعضاً؛ وخصوصاً حين تجد السلطات نفسها في أكثر من مربَّع من المآزق والمشكلات والأزمات التي عملت جاهدة على تأجيل النظر فيها وتسويفها بدل حلها ووضع نهاية لها. وكل المحاولات تلك فشلت فشلاً ذريعاً؛ على رغم أن بعضها استنزف أرواحاً وممتلكات وتجانساً احتاج إلى عقود كي يستقر، وعملت هي على نسفه في لحظة فتنة أو اختلاق مأزق.
حين يغيب صوت العقل يمكن للجنون ومنطق وتوجُّه الدمار والخراب أن يسودا، ويكونا بمثابة العقل لأصحابه، والضحية هي الحياة. الحياة بكل تفاصيلها وتاريخها وما يمكن أن تحققه من مستقبل وإنجاز، يعمد أولئك المجانين إلى نسف عقود من الانسجام والتآخي والمحبة بانتباهة أمراضهم وعقدهم وشهوة مصالحهم وتكالبهم على الغنائم في الأزمات.
هذه الشهوة المفرطة في الخراب والدمار ومحاولات التقسيم والعزل، لا يمكن أن تقف عليها حتى في عالم الحيوان. على العكس من ذلك، فضمن المجموعات يحصل تجانس واتفاقات؛ وخصوصاً في الأوقات التي يتهدَّد فيها القطيع؛ عدا الأوقات التي ينعم فيها ذلك القطيع بنوع من الهدوء وانقطاع المخاطر.
هل تراجعت نوازع الإنسان، يوم أن كان وحشاً، قبل أن يأنس بالمخلوقات من حوله؟ وقبل أن يدشن مجتمعه الذي بدأ منه النقلات الملفتة والعملاقة والمذهلة على أكثر من مستوى وصعيد؟ هل ارتد حنين الإنسان إلى وحشيته تلك، وغياب تمييزه ووعيه بضرورة أن يمهِّد البيئات التي يحيا ويتحرك فيها كي يستطيع إعمار نفسه والحياة؟ يبدو الأمر كذلك.
كل كتابة ورصْد وتحليل ومحاولة فهم في هذه المرحلة الممعنة في توحشها ورماديتها، تبدو تآمراً على التوحُّش السائد، وعلى الشهوات والأمراض التي لا مضاد ولا عقال لها. تبدو حرثاً في المحيط، وبناء في الهواء، وصراخاً في قبر.
يرد في مقالة فالح عبدالجبَّار المعنونة بـ «أن تكون الهويَّة أو لا تكون»، والتي نشرت في صحيفة «الحياة» يوم الإثنين الماضي (26 ديسمبر/ كانون الأول 2011): «قبل نشوء حضارة الاتصال الجماعي، كانت الهويات الثقافية برَّانية على اختلاف أنماطها، من غطاء الرأس، عمامة أو عقالاً، إلى اللباس، والنعال».
لم يعد المظهر هو الحاجة التي تسدُّ رمق استقرار الحضور. ولم يعد الإعلام الردَّاح بإنجازات التقسيم التي يحققها، ولو بأنظمة الديجيتل، هي القادرة على توفير حاجة الاتصال تلك. أعيدونا إلى الكهوف بأرواح نقية وضمائر حيَّة، وسنستطيع تجاوز كفاءة وقدرة أدوات الاتصال تلك. الإنسان بقيمته وطاقاته هو أداة الاتصال الكبرى مع الحياة وما يرتبط بها
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3400 - الأربعاء 28 ديسمبر 2011م الموافق 03 صفر 1433هـ
لايضيع البلد
التقنية و التكنلوجيا لقتل الانسان من دونها افضل
لنتذكر يوم لاينفع مال ولا بنون