إذا أردنا بدايةً أن نعرف ما هي السياسة فلا بأس أن نقرأ معاً ما نسمعه أحياناً على لسان الأطفال... فقد سأل طفل أباه: ما معنى السياسة؟ فأجابه: لن أشرح لك يا بني لأنه صعب عليك في هذه السن أن تفهم المصطلحات، لكن دعني أقرب الموضوع. أنا أصرف على البيت لذلك فلنطلق عليّ اسم الرأسمالية، وأمك تنظم شئون البيت لذلك سنطلق عليها اسم الحكومة، وأنت تحت تصرفها لذلك فسنطلق عليك اسم الشعب، وأخوك الصغير هو أملنا، فسنطلق عليه اسم المستقبل، أما الخادمة التي عندنا فهي تعيش من ورائنا فسنطلق عليها اسم القوى الكادحة. وكل ما يدور بيننا في هذا البيت هو السياسة.
ولكن الطفل بقي يفكر طويلاً في هذا الأمر الذي لم يستوعبه بلا درس عملي أو أمثلة واضحة أكثر تقربه لذهنه. وفي الليل لم يستطع الطفل أن ينام، ولأنه طفل ذكي كما يبدو، فقد نهض من نومه قلقاً عندما سمع صوت أخيه الصغير يبكي. فذهب إليه يتفقده فوجد حفاظته رطبة. ذهب ليخبر أمه فوجدها غارقةً في نوم عميق لا يمكن إيقاظها منه لو عصف الربيع العربي بكل أركان البيت. لكنه استغرب لعدم رؤية والده نائماً بجوارها، بينما هناك ضوء خافت ينبعث من غرفة الخادمة، فعاد للنوم.
وعند صباح اليوم التالي اجتمعت الأسرة على مائدة الإفطار، فقال الولد الطفل لأبيه: لقد عرفت يا أبي معنى السياسة، ففرح الوالد لذكاء ابنه السريع قائلاً: وماذا عرفت يا بني؟ فقال: عندما تلهو الرأسمالية بالقوى الكادحة تكون الحكومة نائمة في سبات عميق فيصبح الشعب مهملاً تماماً ويغرق المستقبل في القذارة.
المحطة الأولى: إذا كان هذا الصبي قد عرف معنى السياسة بين ليلة وضحاها؛ فما بال من نطلق عليهم سياسيين كباراً لم يتعلموها بعد على رغم عشرات السنين من أعمارهم وعمرها بينهم؟ فالأحداث التي تعصف بمشرق الوطن العربي ومغربه كشفت عن سياسيين من ورق وعن هشاشة عظام الهيكل السياسي العربي. وكما قال زعيم التيار الصدري في العراق إن صراع السياسيين أدى إلى تدهور الوضع الأمني الصوري الهش، لدرجة أن اعتراه الألم والحزن والأسى على ما جرى في عاصمة دولته مؤخراً، لأن المتضرر الأخير هو الشعب المسكين الذي يدفع وحده ثمن فاتورة صراع حمقى السياسة الذين أثبتوا كم هم بعيدون جدّاً عن المعنى الحقيقي للسياسة كما فهمه الطفل ليلاً. بينما هؤلاء يدبّرون ليلاً كيفية تهشيم رأس السياسة المضادة لهم في صباح اليوم التالي، وفي النهاية يطلق عليهم سياسيين. إلا أنهم سياسيون مع وقف التنفيذ إلا في تكسير العظام النخرة التي يسهل عليهم تكسيرها بأي تفجير لا مسئول وبعيد عن السياسة. وكل سلسلة التفجيرات باستخدام سيارات مفخخة وعبوات ناسفة في العراق، والتي راح ضحيتها عشرات المدنيين، وسط الأزمة السياسية الملحة؛ فقط لأن هناك من يسمون سياسيين لا يعرفون سوى لغة الغاب بدل الحوار الحضاري.
وجاء لأسباب عادية جدّاً على خلفية الاتهامات الموجهة ضد نائب رئيس الجمهورية والقيادي البارز في ائتلاف العراقية بارتكاب أعمال إرهابية، وقرار صادر من القضاء باعتقاله للتحقيق معه في التهم الموجهة إليه، إلى جانب قرار من رئيس الوزراء العراقي بسحب الثقة عن نائبه صالح المطلك القيادي أيضاً في القائمة العراقية. فما بال هؤلاء السياسيين وكيف يحكمون؟
المحطة الثانية: أظنكم تعرفون من هو سلفاكير ميارديت؟ رئيس جنوب السودان الذي انفصل عن السودان الأم مؤخراً، وقد تفتق تفكيره في الأيام الأخيرة عن القيام بزيارة خاصة لـ «الكيان الصهيوني»، من دون الأخذ بعين الاعتبار تأثيراتها المستقبلية على مصالح السودان جنوبه قبل شماله، وعلى أمنه القومي الذي يهدي تهديده الآن بأرخص الأثمان إلى العصابات الصهيونية ومَن وراءها.
وهذا ما دعا حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم في الخرطوم إلى الإعراب عن خشيته من أن تكون زيارة سلفاكير لـ «إسرائيل» مدعاةً لزيادة التآمر على السودان، واصفاً الكيان الصهيوني بالمتآمر على البلاد. مع أن الحكم في شمال السودان لا يُبرأ بشكل تام مما حدث من فصل السودان شماله عن جنوبه وذلك لسياسات قديمة - حديثة ارتُكبت هناك لعقود خلت. وقال أحد المسئولين في الخرطوم إنه كان يتمنى أن تكون الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب أكثر وعياً من الحركة الشعبية المتمردة التي ظلت تتلقى الدعم الصهيوني من أسلحة وتدريب حتى بعد اتفاقية السلام، وذلك باعتراف الحركة نفسها.
كيف يفهم هذا الرجل ذو القبعة الإفرنجية السياسة أكثر مما فهمها الطفل الذكي؟ وهل صارت صداقة الصهاينة هي العنوان الحقيقي للسياسة العربية في الزمن الرمادي؟ مما جعل بعض المحللين السودانيين يضعون عدة علامات استفهام أمام الرجل وعلاقته الموثوقة برجال الحكومة الصهيونية، وبالتالي مَن وقف وراء مقتل الرئيس السابق (جون قرنق) ووضح أسباب الإسراع في انفصال جنوب الوطن عن شماله ولصالح من شعب السودان أم لصالح الكيان الصهيوني وأسياده؟
المحطة الثالثة: بها سياسة أخرى لمن لم يصل إلى أي موقع سياسي بعدُ في دولته العربية بينما في أدبياته كثيراً ما يصرخ باسم الجهاد الإسلامي ضد الصهاينة ومغتصبي أرض فلسطين. حيث أكد المتحدث باسم حزب النور السلفي المصري في مقابلة غير مسبوقة مع إذاعة الجيش الصهيوني، أن حزبه سيحترم اتفاقية السلام الموقعة مع «الكيان الصهيوني» العام 1979. وعن استعداد حزبه للحوار مع الصهاينة، وأنه لا توجد أية مخالفة شرعية في ذلك!
وقال في مقابلته عبر الهاتف من القاهرة: «نحن لا نعارض الاتفاقية ولكن نحن نتكلم أن مصر ملتزمة بالمعاهدات التي وقعتها الحكومات السابقة، ونحن نحترم جميع المعاهدات، وان أي سائح من الكيان الصهيوني سيأتي إلى مصر فسيكون مرحباً به بلا شك!». وفي الوقت نفسه أشار المتحدث إلى أن صورة حزبه «مشوهة، ساعد الإعلام على تشويهها وساعدت بعض الرموز التي لا تريد للتيار الإسلامي أن يكون في قيادة الدولة». هذا الكلام «السياسي العربي الإسلامي» استغرب منه حتى كبار المسئولين الصهاينة بقول أحدهم إنه فوجئ بقبول ممثل الحزب السلفي المصري إجراء مقابلة مع إذاعة الجيش الصهيوني.
بينما حاول المتحدث باسم حزب النور التبرؤ من المقابلة مع إذاعة الجيش الصهيوني بعد أن سببت حرجاً للحزب الذي لا تعترف قواعده الشعبية بالكيان الصهيوني، فعاد للقول: «لو كنت أعلم أن المتصل من الكيان الصهيوني لما أجبت على الهاتف! وقد فوجئت أثناء الحديث مع الصحافي أنه يعمل مراسلاً لإذاعة الكيان الصهيوني»!.
ولكم أن تقارنوا بين هؤلاء السياسيين وبين طفلنا في بداية الحديث، وتقرروا أيهما فهم السياسة كما هي، الطفل البسيط أم هؤلاء وأشباههم في الوطن؟
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3398 - الإثنين 26 ديسمبر 2011م الموافق 01 صفر 1433هـ
مقال جميل
مقال جميل وما أشبه الامثلة البسيطة بالحكومات العربية المستبدة وعلاقتها بفساد وإفساد الطبقة الكادحة الفقيرة وإستعبادها روحياُ وحسدياً !!!!.
أبوجعفر