في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، تبث شاشة قناة «العربية» في مكتبي صوراً لمصريين شجعان يقفون بالدور في مواجهة الترهيب والشك من أجل انتخاب برلمان جديد. مشهد ما كنت لأتصوره قبل أقل من سنة واحدة، إلا أنها صورة متناسقة كذلك مع الانتخابات المبهرة والتي لم يسبق لها مثيل في تونس، إضافة إلى الآمال التي أصبحت واقعية بخطوات ديمقراطية مستقبلية في ليبيا وربما في سورية واليمن.
إلا أنني في الوقت ذاته قلق بسبب المخاوف المنتشرة التي تأتي تزامناً مع هذه التجارب الديمقراطية الجديرة بالثناء. يتساءل المتابعون في كل مكان ما إذا كان حكام مصر العسكريين سينكرون على البرلمان الجديد السلطة التي يستحقها، وما إذا كان حكام تونس المنتخبين حديثاً من حركة إسلامية سياسية، سيسعون بعد أن فازوا بحقهم في الحكم، لحرمان الآخرين حق التنافس معهم في مجال مفتوح من الأفكار والآراء. وعلى رغم أن الناشطين السياسيين على اتساع المنطقة يملكون بأشكال مختلفة التصورات الصحيحة بشأن هذه القضايا، حيث يرغبون في رؤية هذه التجارب الديمقراطية حقيقية ومستدامة، إلا أن قلة تمكّنوا حتى الآن من صوغ برنامج أو استراتيجية متماسكة يمكن من خلالها الوصول إلى هذه الأهداف.
في هذه الأثناء، يتراجع مشهد آخر كان قد جذب اهتمام المنطقة قبل أسابيع فقط، وكان مادة للحوار العام، أعني بذلك محاكمة نخب النظم السابقة، من حسني مبارك وعائلته في مصر إلى حُماة النظام السابق في تونس. هناك رأي عام في المنطقة يتفق على أنه من العدل والحق تحميل النخب الفاسدة مسئولية سوء استخدامهم للسلطة، ولكن في الوقت نفسه يجب النظر باهتمام إلى إعطائهم حق محكمة عادلة، حتى وإن كنا نعلم أنهم لم يكونوا ليعطوا مواطنيهم محاكمات مشابهة.
وهو مشهد يأتي في سياق بالغ الأهمية يتعلق بالتجربة إجمالاً، وصولاً إلى التجربة الانتخابية الجديدة في المنطقة، وتجاربها مع العدالة وحكم القانون، بما يعنيه مفهوم المساواة أمام القانون، وإرساء قواعد القانون والنظام، وتطبيقٍ فاعل وكفؤ ومتوقَّع للعدالة وحماية لحقوق الإنسان. وتعبير «حكم القانون» هنا يتجه مباشرة إلى نظام يتم من خلاله مساءلة جميع مواطني الدولة وبشكل متساوٍ أمام قوانين عادلة مكتوبة يشرف عليها الشعب أو ممثليهم المصوت لهم.
هذه الأمور لها علاقة وثيقة بقضية ملحّة وآنية: كيف يمكننا ضمان الحوكمة الجيدة وتداول مستمر للسلطة بعد إجراء الانتخابات؟ في البداية، قد تبدو الانتخابات الحرة تعبيراً أكيداً عن الديمقراطية، ولكنها قد تكون رمزاً ليس إلا، ما لم يتم تطبيق حكم القانون لترسيخ وضمان الأسلوب الديمقراطي.
وعلى المدى البعيد، يشكّل حكم القانون الإطار المثالي لثقافة ملتزمة بالتسامح ومنفتحة على وجهات النظر المتنوعة. وهو يستطيع منع «البلطجة السياسية» التي تستخدم الإرهاب عند مواجهة المنافسين، بل والأكثر حرجاً في منطقتنا إساءة استخدام الدين كأداة سياسية لقمع حرية التعبير والاختيار.
والحقيقة أنه وأثناء عملية التصويت نفسها، ليس هناك ما يمكن أن يضمن للأحزاب السياسية المختلفة من الإشراف بشكل مشترك على عملية انتخاب عادلة وتأكيد فرز شفاف لعملية التصويت، كما إتاحة الفرصة لمراقبين دوليين لتتبع آليات الانتخاب، سوى مبادئ حكم القانون.
وهي مبادئ هدفها الأسمى هو منع الهيمنة غير العادلة على آليات التصويت أو التلاعب بالنتائج. إضافة إلى أنها تستطيع أن تلعب - لاحقاً - دوراً أساسياً بعد إعلان نتائج الانتخاب من حيث تمكين أحزاب المعارضة من لعب دور في انتقاد الحزب الحاكم بشكل علني متى ما أساءوا إدارة شئون البلاد.
المقلق أن نظرة للحالة الاجتماعية الثقافية العربية، تؤكد أن حكم القانون يبقى ضعيفاً في الواقع حتى الآن. إلا أننا في العالم العربي نملك أكثر من أي وقت مضى فرصة ذهبية للبدء بإعادة تشكيل مستقبلنا، من خلال تقييم المرشحين والأحزاب الحاكمة الجديدة بناءً على التزامهم بهذه المبادئ بل والتبني لها. والأهم أن ذلك يقفز بنا إلى تكوين أسلوب لمنع الفائزين من إساءة استخدام سلطاتهم الجديدة وإنشاء دكتاتوريات جديدة، وبالتالي وضع حواجز أمام انتخابات حرة مستقبلية، أو التأثير على نتائجها أو المساس بها.
ودون السعي لإيجاد وتحقيق حكم القانون، سنجد أنفسنا نقوم وبشكل آلي بالعودة إلى نقطة البداية، واحتكارات جديدة للسلطة، وليس الاحتفال بازدهار ربيعنا العربي
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 3393 - الأربعاء 21 ديسمبر 2011م الموافق 26 محرم 1433هـ