تدرك بالفطرة أن الساعي إلى المستقبل لا يترك ماضيه خلفه ويتنكَّر له للدخول إلى ذلك المستقبل. يمكنه أن يذهب إلى المستقبل بثقة بالغة، متسلِّحاً بالوعي والأدوات المؤدية إلى ذلك الذهاب، من دون أن يكون على قطيعة مع ماضيه.
أي مستقبل نعني؟ مستقبل من؟ ما هو شكله، قيمته، مضمونه؟ ماذا عن الحاضر الذي منه ينطلق كل منَّا نحو مستقبله؟ كيف هو؟ ما هو شكله، قيمته، مضمونه؟ كيف يتسنَّى لأي مخلوق أن يعبر إلى المستقبل وحاضره محاصر بالخرافة والوهم والقمع؟
***
عودة إلى الحاضر، وهو من الحضور، بمعنى التزام حركته وتفاصيله، صعوده وانهياره، استقامته وجنوحه. هل العرب اليوم على ارتباط بحركة الحاضر واشتراطاتها كي يمكن الحديث عن الذهاب إلى المستقبل، والمساهمة في حركته وتراكمه؟ هل العرب ضمن مؤشر صعود أم انهيار ذلك الحاضر؟ هل هم مساهمون في استقامته وتقدُّمه وصعوده؛ أم في اللبِّ من ميْله وجنوحه وتأخره وانهياره وتراجعه؟
***
حتى الإدراك والفهم اليوم، ضمن الواقع العربي المتردّي بات إقطاعياً. طال الإقطاع النظر والوعي والفهم ومحاولة التماهي مع البسيط من اشتراطات الحياة وضروراتها، في جغرافية ممعنة وذاهبة في حال إقطاعها حد حجز الهواء وحجْب الشمس.
حين تطول حال الإقطاع مراكز التنبيه في الإنسان، يصبح الحديث عن الذهاب إلى المستقبل ضرباً من نكتة في حضرة مجزرة!
***
نحتكر الهامش في هذا الجزء من العالم. كأنَّه وقف علينا، لا يزاحمنا فيه أحد. لا أحد يجرؤ أو يفكّر أن يدفع بروحه إلى تهلكة الغياب ومهلكة الهامش. نحن أكثر شعوب الأرض قدرة على تمثّل الهامش وسرده وحصْر أنفسنا فيه. نذهب إلى الحدود القصوى لنضرب مثلاً لا يُجارى في الغياب والغيبوبة.
***
متورطون في التبسيط. تبسيط حركة الحياة واشتراطاتها من حولنا. تبسيط كوارثنا ومآزقنا والخلل الذي ينتاب كل شبْر منها. موغلون في تبسيط الكوارث التي نعيش، والنوازل التي نحيا ونعاين. تبسيط لكل مشروعات الاستهداف والاحتواء. كأن لا شيء يدور ويحدث ويحاك من حولنا. يدور ويحدث ويحاك بفضل استمرائنا للغياب. بفضل انفصالنا عن حركة الحاضر، وتوأمتنا مع الماضي، من دون أدنى استعداد لقراءته ومراجعته، وانفصالنا وغربتنا عن المستقبل لأننا مجردون من أدوات الدخول إليه.
***
يخرج الثوريُّ الأمّيُّ على الجماهير بوصفة انتحار، أكثر منها وصفة حياة، بجهله أولاً ووصفة يقترحها للذهاب إلى ما قبل الماضي بدلاً من المستقبل.
واحدة من الأزمات العميقة في هذا الجزء من العالم، أن الذين يتصدّرون قضاياه ومشروعات تحرره، هم في الصميم من العبودية في ذواتهم وعجزهم عن قيادة حظيرة أنعام، عدا الحديث عن قيادة أمة.
***
لا قلاع محصّنة في ظل هذا النهْب المفتوح على شهية أكثر من غزو. ليس شرطاً أن يكون غزواً تمهّد له أسراب مقاتلات تقصف إنجاز عقود. الشركات متعددة الجنسيات، خبراء قلب المفاهيم، أساتذة تفسير النوايا، جنرالات إعادة ترتيب الخرائط، وجلهم من المدنيين اليوم، كل أولئك برسْم هدم القلاع المتوهمة. القلاع التي ظن أصحابها لعقود أنها بمنأى عن الاقتحام والدك.
***
كيف لأوطان أن تحلم بالمستقبل وهي لمَّا تفق من غيبوبة حاضرها؟ كيف لشعوب أن تذهب واثقة إلى المستقبل وهي لمَّا تتحرر بعد من قيود ماضٍ مازالت تمثل بوصلتها في الحركة والامتداد؟ مزدحمة هي الجغرافية بالوهم. مزدحمة بالفراغ. مزدحمة بالوحشة والقلاع التي هجرها المحاربون الذين كانوا نبلاء، ولم يطلع عليهم صباح لأنهم كانوا مشغولين بتنبلتهم وثوريتهم (وقت الفراغ) المفضية إلى انتحار جماعي.
***
الكل يتنبأ. حتى الذين لا علم لهم بتفاصيل ما يحدث في بيوتهم، باتوا يتحدثون عن الاستراتيجيات قصيرة وطويلة المدى! باتوا قادرين على التنبؤ بمواقيت الحروب الجرثومية وحرب النجوم، وحتى حالات الفصام لدى بعض الحشرات! بات المستقبل في «الوَدَع». لا ضيْر أن ينام أولئك على مجزرة الخرائط، ومخططات التقسيم. لا بأس فالمستقبل لن تتحرّك قاطرته قبل أن يصحوا من نومهم!
***
أمة تحتلب الماضي، وتسهو عن الحاضر، وفي غياب تراه ضرورياً عن المستقبل، لا يمكن لها أن تؤسس إلا للغياب، وتمعن فيه. هل نحن أمّة الغياب؟ فقط أسأل
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3393 - الأربعاء 21 ديسمبر 2011م الموافق 26 محرم 1433هـ
عشت ياجمري
جدي الله يرحمه يردد مثل ايقول اذا فلس البونيان رد ايدور في دفاتره العتج هذا حال من افلس سياسيا ايدور هفوه على هلناشط او ذاك قبل خمس عشر سنوات يستحظرها بكل وقاحه ويحاول ايشوه سمعه هذا وذاك عشان يازعم يضغط عليهم ليغيرو موقف ما ما درى ان هذا اسلوب فاشل قديم ابتزاز بشع لا يصلح لهذه الايام
القرون الماضيه
شاهد عظيم على ما تقول . تأريخ لا يسرد غير ذلك و هذه علامة الجبن و الجهل . علامة التمييز بين النور و الظلام .