هناك حالة من القلق تنتاب الكثيرين لما يحدث في مصر الآن من حالة الاستقطاب ما بين أنصار من يطالبون بوضع الدستور أولاً وأنصار الذين يطالبون بالانتخابات قبل وضع الدستور، وما يزيد حالة هذا القلق تحوله من اختلاف في وجهة النظر للقوى السياسية إلى اختلاف ذي استقطاب ديني خاصة وأحد طرفي قطبي الاستقطاب تجمعهم الشعارات والمسميات الدينية سواء في شكل جماعة الإخوان المسلمين أو الجماعات الإسلامية الأخرى.
وعلى رغم خطورة هذا إلا أنه في الوقت نفسه لم يسلم وجوده من فوائد من خلال عرض وجهات النظر لأنصار كل فريق للرأي العام عبر ردود أفعالهم لتبرير مواقفهم... فقد أظهر هذا الاستقطاب وما ارتبط به من نقاشات حادة الكثير من التعبيرات والعبارات الكاشفة التي يطلقها أنصار كل فريق إلا أنه يبقى لتعبير الخروج عن الشرعية في حالة الإتيان بالدستور قبل الانتخابات ليكون له رنين خاص ليس لكون من يرفعونه الإخوان المسلمين فقط وإنما لكون هذا الشعار طالما استخدمه من قبل كهنة النظام السابق لتبرير إفسادهم للحياة السياسية وتكريسهم للاستبداد حتى لم يفوتهم استخدامه أيام الثورة قبل تنحي الرئيس السابق، وكأن الشرعية بالنسبة لهم تعني الهيمنة والسيطرة وليس العمل بحكم القانون.
وهذا الاستقطاب بتحوله من اختلاف في وجهة النظر إلى إعطائه صبغة دينية يؤكد على سمة ربما لم تكن واضحة في السابق لأنصار هذا الفريق عندما تعجزها الحيلة في مواجهة مواقفها مع الآخر بالحجة فتحوله إلى قضية دينية مثلما حدث أيام الاستفتاء الأخير، ويمكن بسهولة تلمس هذا النهج في خطاب هذه القوى بتدشين الاتهامات والتوصيفات التي تحمل إهانات للآخرين للذين يطالبون بالدستور أولاً لكونهم، من وجهة نظرهم، ليسوا فقط خارجين على الشرعية وإنما هم علمانيون ضد الدين على حد فهم للمفهوم. وهذا أمر كان متوقعاً من هذه القوى والجماعات الدينية بأن تتصرف بنهج النظام السابق نفسه في تعاملها مع المختلف معها لارتباط عقلية تفكيرها بعقلية تفكير رموزه لأسباب كثيرة منها أنها كانت صنيعة بطريقة غير مباشرة لاستبداد هذا النظام الذي حاربها واتخذ منها عدواً ليستمد من محاربة وجودها شرعيته واستمرار فساده داخل المجتمع... وبالتالي فهم صنيعة رد فعل الكبت والعنف الذي مارسه ديكتاتورية النظام السابق ضدهم وليسوا نتيجة ولادة طبيعية لقوى موجودة داخل المجتمع. ومن هنا فهذا الجدل أظهر بجلاء مجموعة من الحقائق أولها: أن الثورة المصرية كانت ثورة مدنية للطبقة الوسطى التي التحمت فيها مع أبنائها بعيدة عن التوظيفات الدينية، وهو ما أدهش هذه القوى الدينية نفسها قبل النظام ما جعلهم يلتحقون بها كجزء من الكل وليس ككل كما كان مسيطراً في عقليتهم في كونهم هم المهيمنون على الشارع، وهذا يفسر تشويهم بعد ذلك لكل تجمع أو تحركات منفصلة بدونهم مثلما حدث في جمعة الغضب الثانية بترديدهم الشائعات حولها، وعلى رغم ذلك نجحت في أن تكون مليونية الطبقة الوسطى المدنية. ثانياً: أن هذه الجماعات الدينية سلكت سلوكها الطبيعي بعد التنحي بخروجها عن مثار الثورة وهو أمر طبيعي لكونها منذ البداية لم تكن فيها وأخذت تبنى قواعد قوتها استناداً إلى تاريخها، وإن كان في ذلك ظلم كبير لشباب الإخوان الذي يقترب من أفكاره من شباب الثورة أكثر من ارتباطه بقادة الجماعة المهيمنين والمتحكمين فيها.
ثالثاً: عجز هذه القوى العيش خارج نطاق آخر غير إطار المعارضة وتلفيق الاتهامات الدينية للمخالفين لها في الرأي، فما من حديث لرموزها بما فيهم المرشد العام إلا ويؤكد على ذلك… وهي تستند هنا إلى قاعدتها الدعوية التي تنطلق من امتلاك الحقيقة الدينية في كل أنحاء المجتمع على أن ما يقوله الإسلاميون هو الدين وما غير ذلك ليس بصحيح... وامتلاك مثل هذه الأدوات يجعلها تنجح نسبياً في التعبئة المجتمعية لمجتمع بطبيعته متدين ويتردد كثيراً في أن يعترض على المقدس حتى لو كان موظفاً بشكل سياسي مثل ما يحدث الآن منهم.
رابعاً: أن هذا الاختلاف أعاد الثورة لأصحابها الحقيقيين قبل التفاف المنتفعين عليها، فسقوط النظام السابق كانت فوائده كثيرة للكثيرين حتى ممن لم يقوموا بها مثل السلفيين وغيرهم، إلا أن هذا لا يمنع أنهم وجدوها فرصة لإثبات وجودهم، وهو حق مشروع لهم. مادام ذلك يتم في إطار دستور يضمن حقوق الكل المختلف بمبادئه التي تعلوا على كل أصحاب هذه الأيديولوجيات والقوى السياسية ليكون في النهاية الحكم بينهم.
ومن هنا يأتي السؤال المنطقي أي شرعية سيتم الخروج عليها، وهل الشرعية هي شرعية ثورة 25 يناير أم شرعية الاستفتاء؟
هنا يجب التأكيد وفقاً لحقائق الواقع أن الشرعية لم تكن لاستفتاء يوم 19 مارس/ آذار الذي تم على بعض المواد من دستور سقط بسقوط النظام، وإنما كانت لتأكيد شرعية الثورة التي أسقطت لهم النظام بدستوره وبالتالي فرحة المصريين وتعاطيهم مع الاستفتاء كانت من خلال هذا المنطلق، فشرعية الثورة هي التي جعلت المجلس العسكري يحكم الآن وهي التي شكلت وزارة عصام شرف، وهي التي سرّعت بالمحاكمات لأعمدة النظام السابق وليس الاستفتاء على بعض مواد من الدستور... وبالتالي فهي شرعية مستمرة إلى أن يتم بناء الإطار المؤسسي والقانوني للثورة المصرية... أما عملية الالتفاف والتركيز على الاستثناء المتمثل في عملية الاستفتاء بجعلها القضية الرئيسية، مثل ما يفعل الإخوان المسلمين الآن فهذا ظلم بيّن وخروج عن المثار الحقيقي للثورة المصرية التي لم تكتمل بعد، فالقضية ليست إطلاق انتخاب برلمان فكان هناك في 2010 انتخابات برلمانية ودخل فيها «الإخوان المسلمين» ونتيجة للتزوير أو لعدم استيفاء الاتفاق ما بينهم والنظام لم ينجح منهم أحد في الجولة الأولى فانسحبوا منها في الجولات التالية، والقضية أيضاً ليس في انتخاب رئيس للجمهورية، فكان هناك في 2005 انتخابات بين متنافسين من بينهم الرئيس مبارك ولَيْتَهُ سار على النهج نفسه بعد ذلك، وإنما القضية هي هل ننجح بالفعل في بناء الإطار الدستوري والمؤسسي للدولة المصرية في شكل القواعد والقوانين الحاكمة العادلة في المجتمع التي تكون بمثابة السيف والرقيب على الجميع بلا استثناءات دينية واستثناءات العبارات الفضفاضة مثل عبارة الخروج على الشرعية... هذا هو التحدي الأساسي الذي يجب أن يكون له الأولوية، أما التصارع من قبل القوى السياسية ذات المسميات والإيديولوجيات الدينية للفوز بالنصيب الأكبر من التورتة ليس له ما يبرره.
فلماذا هم خائفون، فهل مصر لو بنيت ديمقراطية سيكون ذلك ضدهم أم معهم، فهم عاشوا تحت نظام استبدادي عمل على حجبهم طيلة عقود، فماذا لو جاء نظام ديمقراطي سيحترم وجود الجميع ويقر قواعد الاحترام والتفاعل ما بين القوى المختلفة أياً كانت توجهاتها... فليس هناك جواب غير جواب واحد فقط هم يريدون ديمقراطية على مقاسهم، وأن المطلق الديني لديهم يتعارض مع القيم الدستورية التي تحمي التعددية والاختلاف في وجهات النظر... وبالتالي يستعجلون سرعة الوصول للهيمنة والسيطرة قبل أن يتواجد الأساس الدستوري والقانوني الذي سيدحض مسلمة أنهم على رأسهم ريشة بسبب تأسلم أحاديثهم وسياستهم حتى وإن كان مضمونها مختلفاً مع جوهر الدين... ومن هنا يبدو لتخوف القوى المدنية مبررها التي أثبت حالة الاستقطاب هذه أنها ليست هينة في المجتمع المصري على رغم علو صوت وغرابة المظهر والشكل الذي يظهر فيه المتأسلمون
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3391 - الإثنين 19 ديسمبر 2011م الموافق 24 محرم 1433هـ