البداية الصحيحة لمعالجة أية مشكلة، هي الاعتراف بوجودها، أما إنكارها والتغاضي عنها للتمسك بالقرارات المجحفة على أساس أنه لا يشوبها الخطأ، ومن اتخذها بلغ مرحلة الكمال والنزاهة، فتلك طامة من الفداحة الوقوع في حبائلها، لأنها تبعد الإنسان عن تصحيح مساره، ولا تكشف له عن عيوبه.

هذا ما نحن فيه الآن، حالة من الوجوم والصمت المطبق إزاء وضع مشوش، ضبابي، مأزوم، لأن كل الأطراف مصرة على سلامة موقفها، وكلا الجانبين يشدان الحبل بقوة ولا رجاء في أن يتفكر أحدهما في إرخائه قليلاً ليتنفس الناس الصعداء.

في تسعينيات القرن الماضي، وإبان الأحداث التي شهدتها البحرين للمطالبة بالإصلاحات وعودة البرلمان الذي تم حله في العام 1973، سرح الكثيرون من أعمالهم وخصوصاً من تم اعتقالهم، وأبعد كثيرون، وآخرون تركوا البلاد وفضلوا ممارسة العمل السياسي ومواصلة المطالبة بالإصلاحات من الخارج.

ومع انفراج الوضع أواخر التسعينيات حين تولى عاهل البلاد مقاليد الحكم في مملكة البحرين، عاد المبعدون وأرجع المفصولون إلى أعمالهم، وتم صوغ ميثاق لتدشين مرحلة جديدة من العمل الديمقراطي القائم على دولة المؤسسات والقانون، وألغي قانون أمن الدولة. وُسمح بتأسيس الجمعيات السياسية وأصدرت - وزارة العمل والشئون الاجتماعية آنذاك - الكثير من التراخيص لإشهار جمعيات مهنية وشبابية وثقافية واقتصادية تمثل المجتمع المدني وتعبر عن رؤيته وتطلعاته وطموحه في نطاق منفتح، بعيداً عن الفترة السابقة التي كان فيها التعبير عن الرأي يعد أمراً مستحدثاً يصل إلى حد الجرم والإثم الكبير. كما شهدت هذه الفترة بروز صحيفة «الوسط» على الساحة الإعلامية كأول مشروع وطني مستقل يعبر عن نبض الشارع وهمومه، ويقف من الجميع على مسافة واحدة، فلا يحابي أو يزايد على مصلحة الوطن وأبناء الشعب مهما كان لونهم أو عرقهم أو جنسهم.

ما حدث شكل نقلة نوعية كبيرة ومصالحة معلنة أسهمت في تطييب الخواطر وتسكين الآلام وتهدئة الناس. وبعد كل هذه السنوات وفيما نعد الأيام الأخيرة من العام 2011، مازلنا بحاجة إلى حدث مشابه، وإرادة صادقة لا تقل عن حماس التسعينيات لإخراج البحرين من الغرف المظلمة إلى رحاب النور.

وذلك كله، يتطلب التنازل عن التفكير بالمصالح والمكاسب التي تحققت لفئة جراء أزمة طارئة، والدفع باتجاه تغليب مصلحة الجميع، من دون النظر إلى عوائلهم وأنسابهم وعقائدهم، فلم يكن النسب والانتماء في جميع مواثيق حقوق الإنسان ودساتير العالم المتحضر، معياراً يقاس به ولاء المرء لوطنه وحبه له، بل إن العمل المنتج المثمر الصادق، هو ما يبرهن حقيقة التصاق البشر بأرضهم التي تربوا وترعرعوا فيها.

صراع المصالح لن ينجينا مما نحن فيه، ففي كل يوم يمضي تغوص معه الأقدام أكثر فأكثر في جوف الوحل، ونخاف على الوطن من يوم نصحو فيه ونرى الوحل قد كتم على أنفاسه فلا مخرج حينها ولا حل.

وأصدق قول على هذا الصراع، ما يجري من تسويف وتعطيل ومحاربة للمواطنين في أرزاقهم، فالشركات الوطنية وغيرها تتذرع بأنها وظفت أناساً آخرين بدلاً من المفصولين ولم يعد بمقدورها تحمل المزيد، وهذا الكلام فيه مغالطات كثيرة، فعلى رغم امتداد الفترة الزمنية ما بين أحداث التسعينيات وانفراج الأزمة من 4 إلى 5 سنوات تم خلالها توظيف المئات، فإن الجميع عادوا بقرار سياسي صريح، بينما التسريح الذي جرى في القطاعين العام والخاص خلال العام الجاري (2011) لم يمض عليه أكثر من 8 أشهر، فهل أعداد من تم توظيفهم في هذه الفترة تفوق سنوات التسعينيات؟ والأدهى أن بعض الوزارات تنفي وجود مسرحين لديها، وتؤكد أنها أرجعتهم إلى مواقعهم بعد صدور تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق، فكيف أرجعتهم وهي خاضعة لديوان الخدمة المدنية الذي لم يرسل أي إشعار منذ صدور التقرير إلى الجهات الحكومية لإعادة المفصولين؟ وإذا كان ما تقوله صحيحاً، فمن هم الذين يعتصمون بصورةٍ شبه يومية أمام وزارة العمل للمطالبة بإرجاعهم، مرتدين ملابس الأطباء والممرضين وبدلات أساتذة الجامعة وحراس الأمن وفنيي المختبرات، ومنهم من يحمل أقلام السبورة ومعدات التدريس وخرائط المواقع وتصاميم المباني، هل هؤلاء يعملون في القطاع الخاص؟ وما هو موقعهم من الإعراب إن لم يكونوا موظفين مسرّحين من وزارات الدولة ومؤسساتها؟ كما ذكرت سلفاً، الوضع يحتاج إلى مصارحة ومكاشفة ومواجهة الواقع بثبات وقوة وإصرار على معالجة الأزمة، أما الالتفاف على الحقيقة والواقع المر، فذلك تهربٌ لا يمكن أن يصنع واقعاً يستشعر فيه الجميع أن وطنهم يحترم إنسانيتهم وكرامتهم وحقهم الوضعي والسماوي في العيش بسلام وطمأنينة