في روايته «موتى مبتدئون» (novice dead) يثبت سليم بركات أنه واعٍ كل الوعي حين يطلق للغة بطولتها المطلقة في كل رواياته، من دون إهمال اشتغاله على السرد، محطماً أطره ووصفاته الجاهزة، عبر مران قاسٍ لا يتعمَّده كي يدخل القارئ في مساحات لم يعتدها ولم يألفها في مجمل النتاج الروائي العربي الذي تكتظ به المكتبات.
في «موتى مبتدئون» يحضر السَّفود (عود من حديد يُنظمُ فيه اللحمُ ليُشوى. والجمع: سَفافِيد). في الرواية عنواناً عن غربة وقلق وانهيارات وعبث بالجملة. يحضر كما تحضر غابة البتولا (زهرة من أسمائها البتولة، البتولا الذكية الرائحة)؛ لتكتشف أنهم ليسوا موتى مبتدئين في نهاية مطاف السرد. إنهم موتى محترفون بينهم الأخرس وراكوف الباسل؛ على رغم التساؤل المر: «بم يعترف الأخرس؟ أم تحسن قراءة صوت الأخرس. بإقناع الثور - راكوف الباسل؟».
معظم الشخصيات تخرج عن طورها، ولكنه خروج مُحْكم. خروج للداخل. خروج يؤسس لمأزق الذي دفعها للخروج عن ذلك الطور.
أكثر من اثني عشر شيخاً تلمَّسوا مصائرهم قبل أن يتلمَّسوا «خشب الزحافات المهترئة». شيوخ في درس طفولتهم وإن بدا أنهم في الدرس الأخير من النفس في الحياة.
تتقصَّى «موتى مبتدئون» الرجحان في كل شيء. رجحان الوهم، الحقيقة، الصدمة، العذابات المفتوحة على الاحتمال وعلى الواقع في الوقت نفسه، وتتحرَّى أيضاً الاستدراج. الاستدراج في التأمل، الامتعاض. الاستدراج إلى المبرد كما هو استدراج وحشة اليد بعيداً عن المبرد والمدية. استدراج للنقائض. خلطة من الجنون والكائنات المنذورة لذلك الجنون. خلطة من العقل أيضاً. عقل بلا خرائط وجاهزيات. خريطة للغرباء وأوطان موصدة على أبنائها.
نقرأ: «في الفجر، الشبيه بمساء متعب، نهضوا هادئين. نظروا طويلاً إلى الرجل المرهف العينين، ثم غادروا، تاركين متاعهم كله، وزحافاتهم. غابوا في اللفيف الشجر. غابوا في الجرح الأبيض، تحت الضلع الثاني من أضلاع الثلج العارية».
للأوقات خريطة نفسها قبل ساعاتها وأوانها. للأوقات في الرواية خريطة مغادرة وخريطة وصول. خريطة هدوء يشبه الحليب، وخريطة قلق وانفعال وحتى انفجار. المتاع جزء من الفاقة، كما هي الفاقة جزء من المتاع.
تسقط الذاكرة؛ بل الذاكرات مجازاً في الرواية لكنها مشرعة وملوِّحة كنار في سهول تضج بالطزاجة: «في كل خطوة أسقطت ذاكرتي، بتواطؤ مني عليها. أسقطت ذاكرتي كقشر الفستق. قشر لن ينبت. قشر مملح».
«موتى مبتدئون» تكمل تأسيساً اشتغل عليه سليم بركات عبر أكثر من 12 رواية في المتح من قاموس لغوي ثري ظل مهملاً ومركوناً ومستغلاً في الأدنى من إمكاناته. يعيد صقله بخلق واجتراح عوالم وصحوات وكوابيس وأزمنة ومجاهل ومعلوم وتوهم وماثل. اشتغال على ما بعد السائد وتجاوزه وفضحه وهز وهنه.
«موتى مبتدئون» لسليم بركات تذهب بهم إلى حيث اللانهايات. يترك بركات أمامك فهماً متعدداً لرواياته. يترك لك حرية التأويل. وهكذا فهمت روايته. فهمتها «موتى لا نهاية لهم» فيما يوحي العنوان بابتدائهم
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3389 - السبت 17 ديسمبر 2011م الموافق 22 محرم 1433هـ
Big name for a big artical
go a head god bless u
مقال ممتاز
لطالما احببت ان اقرا مقالاتك :)