قبل أيام التقيتُ صديقاً كان يوماً ما مصاباً بالسمنة، والآن هو في قمة الرشاقة والأناقة، سألته عن البرنامج الغذائي الذي يسير عليه، فأجاب: أنا ألتزم ببرنامج غذائي معين وأمارس الرياضة باستمرار، فالطبيب المختص الذي أراجعه بانتظام هو من حدّد لي هذا البرنامج وهو أول المتقيِّدين به عمليّاً؛ لأنه جسمه رشيق ـ لاحظوا معي فهو معجب بالتزام الطبيب نفسه بالبرنامج ـ وهذا بحد ذاته شجعني أكثر على احترامه والتعاطي معه بإيجابية.
يوميّاً، يستقبل الأطفال كثيراً من هذه الرسائل الصامتة (الإيجابية منها والسلبية) سواءً داخل البيت أو في البيئة المدرسية أو في المجتمع بشكل عام، وعليها تُنسج أفكارهم وتُبنى مواقفهم وتتشكل سلوكياتهم، فالطفل في البيت لا يحتاج إلى سماع الكلام الإنشائي الجميل والمنمق من أبويه لإدراك المفاهيم الأخلاقية كالصدق مثلاً، بقدر ما يريد للصدق أن يكون ماثلاً أمام عينيه، فعندما يعد الأب ابنه بشراء لعبة له ومن ثم يتنصل، يستنتج الطفل بالمشاهدة وبالممارسة العملية لسلوك أبيه مفهوم الكذب وعدم الوفاء بالعهد، وهو المفهوم المضاد للقيمة الأخلاقية التي يُراد له أن يكتسبها ويتعلمها.
القرآن الكريم يحارب «ازدواجية المعايير» لدى الأفراد والجماعات، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ». (الصف: 2 ـ3).
ولكن، قليلاً من التأمل في واقعنا التربوي والثقافي والاجتماعي والسياسي وغير ذلك يعكس بالفعل وجود ظاهرة «ازدواجية المعايير» التي تنبَّه إليها الشاعر عمر الخيام في رباعيته، ترجمة الشاعر العراقي علي الشرقي:
في يدي مصحفٌ، وخمرٌ بأخرى
بينَ هذا وذاكَ طوراً فطورا
أكثرُ الناسِ لو تأمَّلتَ في الناس
فهم يحملونَ ديناً وكُفرا
يعدُّ « المنهج الخفي « من الرسائل التربوية الصامتة التي تصاحب مشروع التربية على حقوق الإنسان، وأول من استخدم مصطلح «المنهج الخفي» في الفضاء التعليمي هو فيليب جاكسون في كتابه «الحياة في الصفوف المدرسية life in the classroom» عندما أشار إلى أن الأطفال يتعلمون أشياء كثيرة لا صلة لها على الإطلاق بالمنهج المدرسي الرسمي.
وتساءل: لماذا يقوم الطالب بالغش في الامتحان ويكذب، على رغم أن المناهج المدرسية تركز على أهمية التربية الأخلاقية؟ فلم يغب عن فكره التأكيد على دور «المنهج الخفي» في ظهور بعض الأفعال والممارسات المتناقضة أصلاً مع الدور الرسمي الصريح والمعلن للمؤسسات التعليمية.
في الحقل التربوي، هناك مسميات أخرى مشابهة لـ «المنهج الخفي»، من قبيل: المنهج المضمر أو المستتر، والمناهج غير المكتوبة، والمناهج غير المدرسية، والإنتاج المدرسي الثانوي، ومخلفات التمدرس وغير ذلك، والكثير من الباحثين التربويين يرون أن «المنهج الخفي» أكثر أهمية وربما خطورة من «المنهج الصريح الرسمي والمعلن»؛ لأن «المنهج الخفي» ما هو إلا «فعالية تربوية صامتة غير منظورة، وعلى المعلم أن يرصدها فيما بين السطور وما خلفها، وفي الزوايا المظلمة للحياة التربوية».
والفرق بين «المنهج الصريح» و»المنهج الخفي» يتمثل في أن الأول يتم الإعداد والتخطيط له مسبقاً من قبل المعنيين بوزارات التربية والتعليم، بينما يرتكز الآخر على طبيعة المواقف التربوية والتعليمية اليومية والعفوية في المدرسة، وما يرافقها من سؤال مفاجئ قد يوجهه الطالب إلى المعلم في أية لحظة، وعلى المعلم صاحب الخبرة الإجابة عنه بكل شجاعة ومسئولية.
هناك دراسة مهمة ذات صلة بموضوع مقالنا، تحمل عنوان: «الرسائل الصامتة في المدرسة... قراءة أيديولوجية في الوظيفة الطبقية للمنهاج الخفي»، للأستاذ الجامعي علي أسعد وطفة، حيث طرح نماذج من المنهج الخفي، فعندما يطلب الباحث في دراسته من مجموعات من الطلبة في كلية التربية بجامعة الكويت أن يجيبوا عن السؤال الآتي: ما الشيء الذي تعلمته في المدرسة خارج المنهج المدرسي؟ وصلت إليه مجموعة هائلة من الإجابات، (ونكتفي منها فقط بما يتماشى مع مشروع التربية على حقوق الإنسان)، مثل: تعلّمت مع الآخرين في جماعة في فضاء محدد، وكيف أحتمل أحكام الآخرين، وأن أتجنب العنف وأدافع عن نفسي، وألا أفقد الكرامة والمكانة، وأن أتخذ موقفاً وأدافع عن النفس، وكيف أخدع وأغش وأحتال، وألتزم الخضوع والامتثال للنظام، والعمل بانتظام، وإدراك التراتب الاجتماعي، وأن أكون مستقلاً، وما إلى ذلك.
ويضيف الباحث وطفة أننا «لو استعرضنا هذه القائمة أمام المعلمين لدهشوا تماماً من الأشياء التي ساهموا في تعليمها دون أن يعلموا ذلك في حقيقة الأمر، وعندما يسأل المعلمون سيقولون بالتأكيد هذا محز ومخيب للآمال، ولكنه صحيح إلى حد كبير، فالمعلمون لا يعرفون كل ما يتعلمه الطلبة في المدرسة، ولكن كثيراً منهم يدرك بصورة عامة وغامضة أحياناً أهمية الخبرات التربوية للطلبة في داخل الصف ودورها في إكسابهم بعض المهارات وأنماط السلوك، فالخفي وفقاً لهذه الصورة ليس خفيّاً بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنه غير معلن وغير مقروء وغير مفكر فيه، وهذا الخفي يتكشف بالبداهة والخبرة والذكاء والتحليل، فهناك أمور تربوية كثيرة تحدث في دائرة الصمت وفي الفراغ والخفاء». (راجع: المجلة التربوية / مجلة فصلية علمية محكمة، تصدر عن مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، العدد 94، مارس 2010م).
ما نريده للمؤسسات التعليمية المعنية بالتربية على حقوق الإنسان أن تتبنى منهجين متداخلين ومتكاملين في آن واحد، أي « المنهج الصريح والمنهج الخفي»، فمن جهة «المنهج الخفي» يكتسب الطالب مفاهيم التسامح وحقوق الإنسان ويتعلمها عن طريق الممارسة اليومية في الفضاء المدرسي، كما يكتسب قيم المواطنة والعدالة والانضباط وسيادة القانون وكيفية الانخراط في الحياة الاجتماعية وغير ذلك، ومن جهة أخرى يعينه «المنهج الصريح» في التعرف على المعارف والمعلومات والمفاهيم الحقوقية من مصادرها العلمية الصحيحة.
وأهم ما يجب أن نلتفت إليه في هذا المقام هو تأثير «المنهج الخفي» في ممارسات المعلمين والطلبة بعض السلوكيات اليومية في الفضاء المدرسي التي قد تلتقي أو تتعارض مع الخطة الاستراتيجية التي وضعتها وزارة التربية والتعليم والخاصة بتضمين مبادئ حقوق الإنسان في المناهج التعليمية، والتي انبثقت أساساً من المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وصدقت عليها مملكة البحرين
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3389 - السبت 17 ديسمبر 2011م الموافق 22 محرم 1433هـ
بين المنهج الخفي والصريح
الأستاذ فاضل حبيب
شكرا لهذا الطرح الجميل جدا
سعدتُ حقا بقراءته...
جميل جدا أن تركز على المنهج الصريح والمنهج الخفي .. وهو دور ريادي يقوم به المدرس الذي يكون نفسه مع طلابه صفيا أو لا صفيا.. إلا أن المدرس هنا ضحية أخرى لازدواجية المعايير الوزارية والمجتمعية بين المنهجين الصريح والخفي من محاباة وتمييز وغيرهما..يجب أن يُصب التغيير من القمة الهرم لسفحه لا العكس.
محبتي
أ ابو اسامة...مدرسة الخليل بن أحمد