العدد 3386 - الأربعاء 14 ديسمبر 2011م الموافق 19 محرم 1433هـ

مساواة... عدالة... ديمقراطية... ماذا بقي لكي تقولوا نعم؟!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لنواصل الحديث من حيث ما انتهينا إليه. فمازلتُ أتحدث عن جوانب من أزمتنا السياسية / الاجتماعية في البحرين. كثيرة هي الأمور التي تجعلك تهزِّ كتفك عجباً. لكن أكثرها غرابة بالنسبة لي (على الأقل)، هو موقف بعض التيارات غير الإسلامية من الأزمة، وبالتحديد موقف «جزء» من أصحاب النزعة الليبرالية، و «جزء آخر» من التيار الديمقراطي في البحرين.

فالثابت أن أدبيات هؤلاء كانت من أكثر الدعوات صيتاً لتعزيز الحريات، والحياة الديمقراطية وإقرار مبدأ المساواة في الحقوق الشخصية والعامة، لكن، وخلال مسيرة الحوادث منذ فبراير/ شباط 2011 وإلى الآن، ظهر (من بعضهم) ما يُنافي ذلك تماماً، وبدا أن ذلك الموقف في حالة اصطفاف تام لصالح الحكم بالمطلق، مرة بعنوان الحفاظ على الحالة المدنية في البلد، ومرة بحجَّة عدم مناصرة القوى الدينية، أو الظلامية كما يحبّون أن يطلقوا عليها دائماً.

هنا، لا يبدو أن تلك المواقف واضحة بما فيه الكفاية، باعتبار أنها تفتقد إلى التأصيل الايديولوجي. فلا الحالة المدنية متحققة أصلاً في مساواة الحقوق والواجبات، وفي عمليات التعاقد والتبادل والمواطنة، من دون الالتفات إلى الدين والمذهب والعِرق، ما خلا الهوامش والمساحة الضيقة، ولا الشعارات التي رُفِعَت كانت «دينية» حتى ولو حملتها أغلبية ذات توجهات دينية أوّليّة، نظراً لتركيبة ديمغرافية وثقافية وتاريخية بحرينية محدَّدة ومعروفة.

فيما خص الحجة الأولى، فإن ما أظهره تقرير لجنة تقصي الحقائق، والذي أفاض بالانتهاكات، كَشَف مدى هشاشة الحالة المدنية للدولة. كما أنه وفي الحجة الثانية فإن المعارضة (ومثلما ذكر التقرير أيضاً) طالبت ضمن مطالبها لسمو ولي العهد، ألاّ تكون هناك علاقة بين الدين والسياسة، فهي لا تريد دولة دينية وإنما دولة مدنية، فضلاً عن ذكر التقرير أن مظاهرات المعارضة كانت تضم قادة وشخصيات من ايديولوجيات مختلفة، وبالتالي تنتفي الحجتان التي بسببهما أدارت تلك القوى الديمقراطية غير الدينية موقفها من الأزمة.

بالتأكيد، فإننا لن نفترض سوء النية أو طمعها في نيل امتيازات خاصة، بقدر فرضنا لسوء التقدير لديها كما نراه نحن. كما أننا وفي الوقت نفسه، لا يُمكننا أن نفصل بين موقف هؤلاء السادة، وبين تأسيسات سابقة وتاريخية، اصطبغت بها النزعات الليبرالية بشكل غريب على مرّ تاريخها السياسي والفكري. بل إنني وعندما أقرأ التاريخ، أجد شدة المطابقة بين مواقف هؤلاء اليوم في البحرين، وبين مواقف تيارات ليبرالية أخرى في مناطق مختلفة من العالَم، وبالتحديد في مرحلة انتقال الدولة في أوروبا من دولة مطلقة إلى دولة دستورية.

وربما أصبح ذلك الاجترار التاريخي بمثابة الكهف الذي أسَرَ هذه المجموعات السياسية. لقد أصرَّت النزعة الأوروبية في فرنسا بعد الثورة لأن تكون الجمعية التمثيلية التي قدِّمت كهيئة أساسية للحكم جمعية «غير منتخبة انتخاباً ديمقراطياً». بل الأكثر من ذلك وهو أنهم كانوا يُفضلون سلطة قائمة على حكم أوليغاركي يقوده ذوو الأملاك على قيام حكم ديمقراطي أوسع. وكانت تلك المواقف نقيضة تماماً للشعارات التي كان يرفعها الليبراليون.

ليس ذلك فحسب، بل إن غيوم سيبرتان – بلان كان يشير إلى أمر في غاية الخطورة والغرابة في آن، عندما ذكر أن ذوي النزعة الليبرالية والتحررية في فرنسا باتوا حلفاء للمحافظين الذين وقفوا إلى جانب الرجعية الملكية، والنظام الأوروبي القديم، كـ لويس دو بونال، وفرانسوا دو شاتوبريان، وجوزيف دو مستر، على رغم أن النزعتين المحافظة والليبرالية كانتا في حالة تناقض وخصومة في بداية القرن 19، إلاَّ أنهما تحالفتا عند نقطة نقد الثورة الفرنسية والتغيير الديمقراطي.

وعندما بدا الأمر على أنه إحراج تام لهم، بسبب شدة التناقض بين ما كانوا يدعون إليه من معارضة الملكيات المطلقة وسلطة الكنيسة وامتيازات أصحاب الحرف والتقاليد المعرقلة لتحرر العقل الإنساني، من أجل التسامح الديني والحركة الفكرية كما يشير سيبرتان، وبين ما هم فيه من ممانعة التغيير، دخلوا إلى مؤسسات الحكم التي أقامتها الثورة مُرغمين لكي لا ينعتوا على أنهم رجعيون، إلاَّ أنهم ما لبثوا أن انقلبوا مرة أخرى على موقفهم المركَّب، وأصبحوا يستعيرون الحجج السياسية ذاتها التي كان المحافظون قد نظَّروا لها.

لم يكن الأمر فقط متعلقاً بأوضاع الليبراليين في فرنسا، بل إنه انسحب على غيرهم في مناطق أخرى من أوروبا. ففي ألمانيا وخلال القرن التاسع عشر لم يكن أولئك في سوادهم الأعظم ميَّالِين لبدء الثورة السياسية أو الاجتماعية لتغيير أوضاع الحكم الرجعي القائمة، والدعوة إلى الديمقراطية، بل إنهم هادنوا الأنظمة القمعية وتحالفوا مع الأرستقراطية.

أما في بريطانيا فقد كان أصحاب النزعة الليبرالية يدعون جهاراً لإيقاف المطالبة بالإصلاح السياسي الحقيقي، والاكتفاء بما تتفضل به الملكية عليهم، من أجل الحفاظ على اليقين الاجتماعي والسياسي القائم. بل إنهم ومن أجل تحاشيهم المساءلة الاجتماعية والتاريخية، فتحوا لأنفسهم جبهة للصراع مع اليسار الراديكالي، على رغم أنهم كانوا من الحلف ذاته.

أما في العاصمة الإيطالية (روما)، فقد كان جزءٌ من الليبراليين الإيطاليين، غارقين في التعويل على جهود الكنيسة الكاثوليكية لتوحيد إيطاليا من التقسيم كبديل عن الحركة الثورية، على رغم أنهم ايديولوجياً مختلفون لحد العداء مع النزعة الدينية، ولم يجدوا من حجَّة يستندون لها إلاّ وجود البابا بيوس التاسع الذي كان وجوده طارئاً وقصيراً ومحدوداً أيضاً داخل الكنيسة.

هذه المواقف، أضرَّت كثيراً بتلك التيارات وبمبادئها، إلى الحد الذي يصفهم التاريخ اليوم على أنهم كانوا فاقدين للانسجام والتماسك. وزاد من سلبية مواقفهم تلك، أن بعضاً من حكام تلك الحقبة من الرجعيين، قد سبقوهم في الإصلاح بعد مراجعات مستنيرة، كما حصل في إمبراطورية الهابسبيرغ بإلغاء نظام الاسترقاق، وعَلْمَنَة الأراضي الكنسية. ومثلما كانت مضرِّة في السابق لأصحاب هذه التيارات، فإنها كذلك في عصرنا الحالي.

بالتأكيد، فإن هذه المواقف للتيارات الليبرالية لم تكن عملة مسكوكة تتكرر باستمرار، وإنما حصلت هناك موجات لنزعات ليبرالية أكثر إشراقاً. ففي جنوب إفريقيا وإبّان الحكم العنصري، وقفت قطاعات كبيرة من البِيض الليبراليين واليسار لصالح السُّود المضطهدين. وكذلك الحال بالنسبة إلى البِيض في الولايات المتحدة، الذين لم يرتضُوا أن يروا عمليات التمييز العنصري، تتكرَّس في أميركا، على رغم أنهم ينتمون «عرقياً» إلى مؤسسة الحكم ذاتها في واشنطن. كذلك الحال تكرّر بالنسبة لجزء كبير من اليهود ضد «إسرائيل»، ليس آخرهم راشيل كوري، التي دهستها جرافة إسرائيلية وهي تحاول منعها من هدم منزلين لفلسطينيين برفح.

في المحصلة، فإن أقصى ما يتمناه المرء، هو ألا تتكرر أخطاء القوى الموسومة بالليبرالية أو جزء من اليسار الديمقراطي بأكثر الأمثلة ضبابية، باصطفافها، أو حتى بحيادها السلبي مما يجري من انتقاص للحقوق، وضرورة تطبيق العدالة السياسية والاجتماعية، لأن ذلك من شأنه أن يخلق خللاً في حالة الانسجام لديها ما بين الممارسة والمبادئ

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3386 - الأربعاء 14 ديسمبر 2011م الموافق 19 محرم 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 4:58 ص

      تحية إلى المناضل الكبير أحمد الشملان

      من بين كل هذا الأسى والحسرة يبرز المناضل الكبير والأستاذ الشامخ أحمد الشملان والمناضل الكبير الأستاذ محمد جابر صباح وغيرهم وغيرهم دوت إغفال قطاعات كبيرة من الشبيبة الديمقراطية الذين كانت لهم مواقف مشرفة خلال هذه الأزمة بوقوفهم إلى جانب المطالب العادلة دون أن يزعزعهم غير أحقية تلك المطالب

    • زائر 11 | 4:41 ص

      رد على الزائر رقم 6

      عزيزي .. هناك ليبراليون يساريون يسمون عادة بيسار الوسط. وبعد التجديد في النظرية الاشتراكية أصبحت موضوعات مثل احترام الحرية الإيجابية والفردية والتسامح وحق العمل والأجور المناسبة التي هي من صميم الليبرالية الاجتماعية تنادي بها تيارات اليسار أيضا لذا فلا تعني مسائل التسميات في شيء ما دام الجوهر واحد.

    • زائر 10 | 3:10 ص

      لا تضيع البلد

      من سيضع الفرصة التاريخية للتغيير
      حب الذات و حب الدنيا الفانية
      و التعصب

    • زائر 7 | 1:43 ص

      كلام غير صحيح

      اخي محمد قراءتك للمشهد السياسي في البحرين يشوبه نوع من الضبابية فأنت تتحدث عن الليراليين علماً ان البحرين لم تشهد في تاريخها السياسي قوى ليبرالية وإنما بعض التيارات الماركسية والقومية والدينية من واقع ان المجتمع البحريني لم يصل بعد لحالة من النمو والنضج السياسي والإقتصادي بحيث يفرز قواه الإجتماعية والإقتصادية الليبرالية ومن ثم كياناته السياسية الليبرالية ولكن البعض اخذ بالمجاز ودخل في خلط عجيب في تصنيفاته للقوى السياسية

    • زائر 6 | 1:18 ص

      جمعية المنبر الديمقراطي خير مثال

      أكبر مثل لدينا في البحرين هو ما اصاب جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي التي تفاجأنا كيف أن اشخاصا لهم ماضي عريق لكنهم اخفقوا في أن يقولوا كلمة الحق في هذه الازمة بل ان بعضهم أصبح ينحاز لطائفته على حساب المطالب المشروعة للناس وبحجج واهية!!!! إنها خرافة اليسار العربي البائس

    • زائر 5 | 12:28 ص

      هذا الكلام جميل جدا وصائب .. وكنا نتساءل دائما أين الليبراليين من هذه الازمة ... ونقول: ألا يحترموا عقولهم.

      فعلا كيف استطاعت هذه الطبقة من غض الطرف عن كل الانتهاكات التي كانت تحدث، وكيف لا نسمع لهم مواقف من هذه المرحلة التاريخية التي نمر بها، وبعد كل ما حدث من مآسي كنا نتساءل كيف تستطيع هؤلاء من النوم بهناك وكأنهم كانوا يتربصون من اجل الانقضاض على بعض المصالح الخاصة.
      نرجوا ان نسمع من هذه الشريحة مواقف ايجابية لمصلحة الخير للوطن.
      شكر لك على المقال.

    • زائر 3 | 11:59 م

      عندما يحين قطاف الثمر ستراهم

      ( لأن ذلك من شأنه أن يخلق خللاً في حالة الانسجام لديها ما بين الممارسة والمبادئ )
      لقد لخصت كل ذلك في الفقرة الأخيرة من المقال المتميز ، لم يعد هناك ليبراليون وديمقراطيون شرفاء إلا القليل في بحريننا وفي زمننا الحاضر ، هؤلاء لن يشتركوا معك لأن غالبيتهم امتهنوا التجارة وملكوا ومسكوا أفضل المناصب وببساطة ألخص لك ، غلبت المصلحة على أكثرهم ولذلك ابتعدوا وســـترى صورهم ( بالكرفتّة) فقط في الإنتخابات عندما يحين قطاف الثمر .

    • زائر 2 | 11:20 م

      عبد علي البصري

      thank you Editor

    • زائر 1 | 10:51 م

      ليبرالية.. أهلاً.. أهلاً!!

      أرتاد موقع الليبراليين السعوديين، تجدهم يناصرون جميع الثورات العربية وغيرها، ولكن عندما يصل ضميرهم على شرفة البحرين ، يصابون بحساسية وزيادة في ضربات القلب ولعثمة وتأتأة و !! ليس للأسباب التي ذكرتها في مقالك، بل لأن اصحاب الاحتجاجات هنا على غير مذهبهم!! لهذا تيقّنت ان الليبرالية المدعاة ان هي الا نوع من محاولة إبراء الذمة ومسك العصا من النصف والتماهي مع الحكم مرات ومع المعارضة اقل من مرة! وذلك لكيلا لا يحسبوا على الحكم ولا على المعارضة وانما هم امر بين امرين، في منطقة رمادية لا لون ولا طعم لها!

اقرأ ايضاً