تعتبر ظاهرة هجرة الكفاءات العلمية نوعاً شاذاً من أنواع التبادل العلمي بين الدول، يتميز بالتدفق في اتجاه الدول الأكثر تقدماً من الدول الأقل تقدماً، وهو ما أطلق عليه هجرة الكفاءات العلمية «هجرة الأدمغة» أو «هجرة العقول». وقد تتسع هذه الهجرات من بلد لآخر أو تضيق نتيجة عوامل متعددة سياسية واقتصادية وعلمية.
لكن ما نراه في البحرين خلال الأشهر الأخيرة، وما فتئ يتواصل، لهو مشهد آخر غريب وتعريف جديد تماماً لظاهرة هجرة الكفاءات البحرينية العلمية والأدبية والأكاديمية. فهي هجرة قسرية إلى الداخل أولاً ثم تتبعها هجرة اختيارية مشوبة بالمرارة إلى الخارج ثانياً.
مع أن أحد أعضاء البرلمان المعروفين على مستوى التجاذبات الكلامية في الساحة المحلية، دعا في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2007 إلى سن قوانين تحد من هجرة الكفاءات الوطنية للخارج، مؤكداً أهمية التعاون بين الدول العربية لإنشاء مشروعات ومراكز علمية لتكوين الكوادر والكفاءات واجتذاب العقول العربية المهاجرة.
كما ناشد النائب المذكور - وهنا بيت القصيد - الجهات المختصة لتنظيم حملات لإجراء مسح شامل للكفاءات الوطنية المهاجرة، مطالباً - السلطات المختصة بالطبع كما هي مطالب اليوم - بتوفير فرص العمل والقضاء على الفقر والبطالة وتحسين مستوى المعيشة للمواطن العربي، وفي السياق نفسه، منها البحرين.
جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها النائب في ندوة «الهجرة من منظور حقوق الإنسان» التي نظمها الاتحاد البرلماني الدولي في جنيف بسويسرا من 24 إلى 26 أكتوبر الجاري. (الوسط - العدد 1876 - الجمعة 26 أكتوبر 2007م).
كما دعا أحد المنتديات الإلكترونية في أبريل/ نيسان 2007 على لسان نقابة المصرفيين وقتها إلى الاهتمام بهذه الظاهرة والحد منها تحت هذا العنوان الساخر: «اتساع ظاهرة هجرة الكفاءات الوطنية و «عمك أصمخ»! وكان هذا التعليق قد كُتب بناءً على بروز ظاهرة خطيرة في أحد البنوك الوطنية الريادية في البحرين، وهي تسرب خيرة كوادره الوطنية، حيث تزايدت موجة الاستقالات التي تجاوزت المعدلات الطبيعية. والسبب في ذلك - كما يشير التعليق - لا يعود فقط لحصولهم على عروض خيالية في البنوك الأخرى، بل لانعدام التقدير والتدريب والتأهيل للارتقاء بمستواهم المهني وإفساح المجال لهم للترقي وتقلد المناصب القيادية، يجري ذلك في الوقت الذي يستقدم فيه البنك (العمالة الأجنبية) بأعداد كبيرة غير مسبوقة ويدفع رواتب وعلاوات ومزايا خيالية لهم ولعائلاتهم.
ونقابة المصرفيين، لاحظوا، إذ تحذر من اتساع هذه الظاهرة وتؤكد على أن الحل هو في تحسين الظروف المادية للموظفين بتعديل رواتبهم ومنحهم العلاوات والمزايا ووضع الأنظمة للتطوير المهني والوظيفي وتعديل نظم المكافآت للاحتفاظ بالكفاءات الوطنية ودفعها للأمام والتي حتماً ستصب في مصلحة تحسين الأداء. فهل يعي القائمون على هذه المؤسسة هذه الحقيقة أم أن «عمك أصمخ»!
كما دعت نقابة المصرفيين، في تلك الكلمة، القائمين إلى الارتقاء لمستوى تطلعات سمو ولي العهد ونظرته لمستقبل القطاع المصرفي والمالي وإلى تغيير المفاهيم والآليات المتبعة لتسيير عمل المؤسسة التي لم تعد صالحة في عهد الإصلاح والانفتاح والمنافسة القادمة، بل إنها أصبحت من المعوقات أمام تطور أعمالها وقد تقود إلى انتكاسة لا تحمد عقباها قد تنعكس على مجمل القطاع إذا لم يتم تدارك الوضع والإسراع في معالجة ظاهرة تسرب الكفاءات الوطنية وتغيير المفاهيم والعقليات بما يواكب التحولات التي تشهدها المملكة. ويختم التعليق كلماته بهذه العبارة «الالتفاف حول نقابة المصرفيين هو الضمانة لتحقيق طموحاتك في حياة حرة كريمة وظروف عمل لائقة، وانضمامك لها يمنحك الحماية من الفصل كما نص عليه القانون رقم (73) للعام 2006م». فأين اليوم من البارحة؟ وهل صمد هذا القانون لحماية تلك الكفاءات من الفصل بناءً على مواده المذكور؟ بل وهل استطاعت النقابات أساساً حماية أحد من الفصل خلال الفترة الأخيرة، أو إرجاع تلك الكفاءات لعملها القيادي حتى بعد اعتراف التقرير بغبن ذلك الفصل والتهجير الداخلي؟
وهنا يجب التحذير من أن ظاهرة هجرة الكفاءات والأدمغة البحرينية العالية المستوى علماً وفكراً وأداءً هي في ازدياد خلال الفترة الأخيرة، والأسباب واضحة، فلماذا «نسوي روحنا صمخان»، كما ذكر تعليق المنتدى في قضية المصرفيين، أمام كل الكفاءات. وإذا كانت هجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية إلى الدول الغربية تشكل أخطر أنواع الهجرات على تطور المجتمعات العربية وتقدمها؛ فإن هجرة الأدمغة البحرينية والكفاءات الوطنية وهي التي ترعرعت في أحضان الوطن وبين جنباته وقدمت له الكثير، إلى خارج الوطن لسبب بغيض ومكروه وهو الحس الطائفي المدسوس في هذا الجسد الواحد؛ إنما يشكل أخطر ظاهرة يعاني منها المجتمع البحريني اليوم. ولا يظن أحد بأن «الشبيحة» على النسق السوري، هم من سيحل مكان تلك الأدمغة الإنسانية البحرينية الرائعة التي طالما أعطت للوطن بنكران ذات دائماً وبإيثار استمر طويلاً. والمستقبل المنظور سيكشف ذلك حتماً وإن تغافل البعض عنه الآن.
أدمغتنا وكفاءاتنا الوطنية بدأت تتلقفها بشغف الدول المجاورة أو البعيدة فأرض الله واسعة وقد فتح لنا المولى فيها متسع لمن خاف على نفسه وعرضه وأُقصي أو حُرم من حقوقه في أرضه الأم لأي سبب غير إنساني بل شيطاني بغيض حين صرخ الشيطان وهلل بين البعض ودعا إلى التمسك بالطائفية درباً للتعايش اللاسلمي بين مكونات الشعب الواحد، فأتبعوه - واأسفاَ عليهم - في لحظة غفلة وسوء تدبير.
فهل سنضطر لاحقاً، بعد أن تهدأ الأمور بفرج الله في البلاد، لعقد المؤتمرات للبحث في وسائل الحد من هجرة العقول وكيفية استعادة بعضها إلى موطنها؟ ولكن بعد أن «فات الفوت»
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3384 - الإثنين 12 ديسمبر 2011م الموافق 17 محرم 1433هـ
مجرد دعوة
هذه دعوة لزيارة موقع يقدم معلومات موثقة حول طرق وقوانين الهجرة إلى أستراليا وكندا والسويد والنرويج وفرنسا وغيرها...
توثيق
كنت أتمنى على الكاتب أن يذكر لنا إحصائية بعدد العقول المهاجرة من البحرين حتى يكتسي المقال مصداقية أكبر .مع العلم أن البحرين ترعى أبناءها الفائقين و المتميزين منذ حصولهم على الشهادة الثانوية وأرى أن فيما ذكره الكاتب إنكار لدور الدولة في الاحتفاء بهم . وإذا لم يتيسر استيعاب البعض منهم في الجهات الحكومية فما الذي يمنع العقول المتميزة من أن تنجح في القطاع الخاص ؟ الدماغ المتميز تسعى إليه الدنيا كلها ولا ينتظر الفرصة بمنطق الباحث عن الوظيفة الحكومية.
نعم
هاجروا لانهم استبدلوا بمواطنيين اميين. انا شخصيا اعرف طالب جامعي متفوق جدا استقبلته امريكا لان نتائج امتحانات الدخول ابهرتهم وتكفلته الجامعة الى ان ينتهي من الدراسة , برغم ان والده قد اخذه الى هناك على نفقته الخاصة. هكذا تقدر العقول.