بيّن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في رسالته بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر/ كانون الأول 2011 أهمية الاستفادة من سير المناضلين الحقوقيين في العالم حيث قال: «دعونا نتخذ من ناشطي حقوق الإنسان ومن قوة الإعلان العالمي - الصالح لكل زمان - مصدر إلهام لنا، ودعونا نبذل كل ما في وسعنا لدعم المُثل والتطلعات المعبّرة عن جميع الثقافات وجميع الأشخاص». والأكيد أن الشخصيات الحقوقية في العالم بأسره والعالم الثالث خصوصاً والعالم العربي بالأخصّ أكثر من أن تحصى ولكن قلّما وصل واحد منهم إلى سدّة الحكم في بلده بعد مسيرة نضاله. بيد أنّ اثنين من القارة السمراء مثَّلا استثناءً جميلاً وجمعتهما نقاط التقاء كثيرة لعلّ أهمها وصولهما إلى رئاسة البلاد وأعني بهما نيلسون منديلا في جنوب إفريقيا والمنصف المرزوقي الرئيس المرتقب في أقصى شمال إفريقيا أي في تونس.

أمّا نيلسون (روليهلالا) مانديلا الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب إفريقيا فهو أحد أبرز المناضلين والمقاومين لسياسة التمييز العنصري المتبعة آنذاك في جنوب إفريقيا. وأما المنصف المرزوقي فهو واحد من أهم وأشد المقاومين لسياسة الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ. وعلى غرار مانديلا اتخذ المنصف المرزوقي المهاتما غاندي مصدراً لإلهامه في حياته وفلسفته بشأن نبذ العنف والمقاومة السلمية. لكن تفاصيل كثيرة مختلفة بينهما حفت بمسيرتهما النضالية قبل وصولهما على رئاسة جمهورية بلديهما.

فقد بدأ مانديلا في المعارضة السياسية لنظام الحكم في جنوب إفريقيا الذي كان بيد الأقلية البيضاء، حيث طمس نظام الحكم الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للغالبية السوداء في جنوب إفريقيا. ولمّا انتصر الحزب القومي في الانتخابات العامة، فرض البيض في جنوب إفريقيا، خططاً وسياسات عنصرية، منها سياسات الفصل العنصري، وأدخلوا تشريعات عنصرية في مؤسسات الدولة. وفي تلك الفترة أصبح مانديلا قائداً لحملات المعارضة والمقاومة. كان مانديلا في البداية يدعو للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، ثم جنح إلى المقاومة المسلحة وفي العام 1961 حكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمة الخيانة العظمى. عُرض على مانديلا إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة سنة 1985 إلاّ أنه رفض العرض وبقي في السجن إلى سنة 1990 عندما أثمرت مثابرة المجلس القومي الإفريقي والضغوطات الدولية عن إطلاق سراحه ثم حصل مع فريديريك دي كلارك على جائزة نوبل للسلام للعام 1993 وشغل منصب رئاسة المجلس الإفريقي ثم أصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا من 1997 إلى 2000 وخلال فترة حكمه شهدت جنوب إفريقيا انتقالاً كبيراً من حكم الأقلية إلى حكم الغالبية. هكذا إذن خرج نيلسون مانديلا من السجن بعد عشرة آلاف يوم كاملة في المعتقل، وكان عمره واحداً وسبعين عاماً وقاد دولته الجديدة في طريق لم يسبق أن سارت فيه من قبل. ولعلّ كتابه «مسيرة طويلة نحو الحرية»: «من أجمل الكتب، بل ومن كتب العالم الثالث المهمة التي روت واحدة من سِيَر العالم المغلوب وكيف كافحت أمة لتحصل بعد قرون متطاولة على حريتها» على حدّ قول أحد المحللين لشخصية نيلسون منديلا. وواصل قوله: «وإن الأحرار من طراز آخر من الرجال - أمثال مانديلا - يهون عليه أن يموت أو يُسجن ثلث قرن ولا تهون عليه كرامته وحريته». ولاشك أن شخصية نيلسون منديلا كانت بدورها مصدر إلهام للمناضلين المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده مثل الحقوقيّ التونسي المنصف المرزوقي ذلك المفكر والسياسي والمنافح عن حقوق الإنسان منذ ما يربو عن ثلاثة عقود في تونس والعالم العربي والذي صار اليوم قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الجمهورية الثانية - إن لم يكن قد حصل ذلك قبل نشر هذا المقال - ولعل تاريخه النضالي الطويل يشهد له بإيمانه العميق بمنظومة حقوق الإنسان. فلقد سافر إلى فرنسا ليدرس في جامعة ستراسبورغ كلية علم النفس ثم الطب حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الطب. وفي العام 1970 وهو بفرنسا شارك في مسابقة عالمية للشبان بمناسبة مئوية المهاتما غاندي لكتابة نص عن حياة الزعيم الهندي وفازت مشاركته وحل ضيفاً على الحكومة الهندية. وفي 1975 سافر إلى الصين ضمن وفد لمعاينة تجربة الطب في خدمة الشعب ثم عاد إلى تونس العام 1979 حيث شارك في تجربة الطب الشعبي الجماعي في تونس خدمة لأبناء شعبه من الفقراء لكن التجربة لم تستمرّ إلا قليلاً. كما شغل خطة رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان من العام 1979إلى 1994 واعتقل في مارس/ آذار 1994 في زنزانة انفرادية ثم أطلق سراحه بعد 4 أشهر على خلفية حملة دولية وتدخُّل من نيلسون منديلا شخصياً. وكانت السلطات التونسية قد حلت القسم الذي أشرف عليه المرزوقي في كلية طب بمدينة سوسة في تونس في العام 1992، وطرد نهائياً من كلية الطب في العام 2000.

أسس مع ثلة من رفاقه المجلس الوطني للحريات في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1997 بمناسبة الذكرى السنوية للإعلان عن حقوق الإنسان واُنتخِبَ أوّل رئيس للجنة العربية لحقوق الإنسان من 1997 إلى 2000. ثم غادر إلى المنفى من جديد في ديسمبر 2001 وعمل محاضراً في جامعة باريس وأسس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وشغل منصب رئيس الحزب منذ تأسيسه. وفي سنة 2006 دعا في حوار تلفزيوني على قناة «الجزيرة» إلى اعتماد كل أساليب المقاومة السلمية لفرض الحقوق واستعادة الحريات. وشنّ خلال إقامته بفرنسا حملة مستمرّة ضد استبداد النظام السابق في تونس إلى أن عاد إلى تونس يوم 18 يناير/ كانون الثاني 2011 ولقي ترحيباً من قبل مختلف شرائح الشعب التونسي كما لم يلقه أحد من العائدين من المنفى الإجباري. كان المناضل المنصف المرزوقي ولايزال متحمّساً لحركة حقوق الإنسان إلى درجة التعصب أحياناً لكونه مناضلاً ذاق الأمرّيْن من جور الحاكم في تونس ولا يشكك أحد في وطنية الرجل وقوميته عندما يتعلّق الأمر بحقوق الأمة في مواجهة الغطرسة الغربية من خلال السيطرة الصهيونية على جل الإدارات المتتالية لهذه القوة العظمى. وقد ساهم بمقالات وكتب كثيرة في المجال الحقوقي والسياسي. حيث دعا في كتابه «الاستقلال الثاني» إلى ما يسميه «الاستقلال الثاني من أنظمة الاستبداد العربي»، كما يصفها، بعد التحرر الأول من الاستعمار الأجنبي وقد خضع للاستجواب والإحالة على المحاكم أكثر من مرّة بسبب كتاباته. وقد أُحيل إلى المحاكمة في تونس في الثمانينيات بسبب كتابه «دع وطني يستيقظ» وجرت مصادرة الكتاب كما وضع كتاب «من حلم التحرر إلى كابوس الاستبداد» وغيرها.

وها هي جهوده تثمر على غرار نيلسون منديلا - وإن لم يكن طامعاً في الرئاسة - فإن التحالف الجديد في تونس بين حزبه وحركة النهضة الإسلامية والتكتل من أجل العمل والحريات قد أثمر اتفاقاً بمقتضاه وقع تقاسم الرئاسات الثلاثة فللنهضة رئاسة الحكومة وللتكتل رئاسة المجلس التأسيسي وللمؤتمر رئاسة الجمهورية الثانية في شخص المنصف المرزوقي. فكيف سيتعامل المناضل الحقوقي مع هذه الخطة الجديدة؟ وإلى أي مدى سينجح مع الحكومة المرتقبة في تونس للإقلاع بالبلاد نحو تحقيق أهداف الثورة؟