ورد في تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق ما نصه: «توصي اللجنة بالتوصيات الآتية فيما يتعلق بالفهم الأفضل واحترام حقوق الإنسان بما في ذلك احترام التنوع العرقي، ووضع برامج تعليمية وتربوية في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية لتشجيع التسامح الديني والسياسي والأشكال الأخرى من التسامح، علاوة على تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون».
أثبتت الدراسات ذات الصلة بعلم النفس أن للتسامح فوائدة كثيرة، منها إراحة قلب الإنسان؛ لأنه بمجرد أن يتحدث الإنسان أو يفكّر لدقائق معينة عن إساءة تعرض لها من شخص هنا، أو إهانة تلقاها من شخص هناك فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى اضطرابات فسيولوجية ملحوظة في الجسم.
على المستوى الفردي، كيف يمكن للإنسان أن يقبل بمبدأ التسامح؟
يقول المهاتما غاندي: إذا قابلت الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة؟! علاوة على ذلك فقد ذكر خبراء التنمية الذاتية أن على الإنسان أن يفكر ملياً في الشخص ذاته الذي يختلف معه، بحيث يستحضر موقفاً إيجابياً واحداً سبق أن قدمه له هذا الأخير؛ ليحاول أن يعيش كل موقف وكأنه يحدث أمامه، لتكون النتيجة أنه قد تسامح مع ذلك الشخص نظراً لمواقفه المسبقة معه.
أروع ما قرأته في التسامح الديني الذي يتجاوز الأطر الفردية ليؤسس لثقافة تربوية مجتمعية تؤمن بهذا المبدأ، ما نُقل عن الإمام علي (ع)عندما مرَّ مع أصحابه على كنيسة فامتعض بعض أصحابه، وقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا مكانٌ طالما عُصيَ فيه الله. فقال (ع): مَهْ، قل: هذا مكان طالما عُبِدَ فيهِ الله.
نستطيع القول إن أول محطة تعليمية في تعليم «التسامح» تبدأ من البيئة المنزلية، عندما يقوم الآباء والأمهات باحترام آراء الآخرين وأفكارهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والعرقية وغير ذلك أمام أطفالهم الصغار، لأنهم يعكسون بتسامحهم العفوي وممارساتهم اليومية قيمة إنسانية عليا، بحيث يتأثر الأطفال إيجاباً في إدارتهم لاختلافاتهم في المستقبل ضمن قيم «العيش المشترك».
ربما كان الآباء منقسمين تجاه مسألة التسامح والقبول بالتنوع على فئتين: فئة ترحب بالعيش المشترك في مجتمع قُدِّر له أن يكون فسيفسائياً، وفئة أخرى قد تشعر بالتوجس والقلق في تعامله مع الآخر.
لذا كان على الآباء والمربين أن يكونوا صريحين في الإجابة عن أسئلة أبنائهم فيما يتعلق بمبدأ التسامح، وأن لا سقف للنقاش في الحديث عن التنوع والاختلافات طالما كان محكوماً بالاحترام والمودة والمحبة.
ثمة سؤال مهم: من الذي يدرك قيمة التسامح أكثر من غيره؟ الجواب لدى الأسر البحرينية العابرة للمذاهب والطوائف، والتي ضربت أروع الأمثلة في التشجيع على الزواج من الآخر المختلف معه مذهبياً وطائفياً.
ندرك جازمين أهمية التنوع الديني والمذهبي والسياسي والثقافي داخل مجتمعنا، فلكل فئة أو جماعة معتقداتها وطقوسها الخاصة بها، فالمسلم الشيعي لابد أن يحترم خصوصيات ومعتقدات وشعائر أخيه المسلم السني والعكس صحيح، وكذا فإن على المسلم أن يحترم مثلاً معتقدات أخيه المسيحي عندما يمارس شعائره ويحتفل بأعياده، ويمكن للوالدين تعليم أبنائهم قيم التسامح، بأن يشجعوهم على الاندماج واللعب مع الآخرين في الحي والمدرسة والنادي وغير ذلك، وألا يتحدثوا أمام أطفالهم بطريقة تسيء إلى الآخر، حتى لو كان على سبيل الطرفة أو النكتة؛ لأن من شأن ذلك تشجيع الأطفال على احتقار الآخرين وازدرائهم.
في المراحل السياسية الانتقالية المهمة كالتي نعيشها نحن البحرينيين في هذه الأيام، أو التحولات التي تشهدها عموم المجتمعات البشرية بعد النزاعات أو الأزمات، فإن الحاجة تشتد إلى إجراء مزيد من الإصلاحات التي تشجع على بناء وتصميم البرامج التعليمية والتربوية التي تعزز قيم التسامح وثقافة حقوق الإنسان.
وقبل أن يبدأ العاملون والمعنيون بالعملية التعليمية والتربوية بتصميم البرامج الخاصة بتعزيز قيم التسامح والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، فإنه ينبغي عليهم أن يضعوا نصب أعينهم المفاهيم والسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها؛ ليمكِّنوا جيلاً من أبنائنا المتعلمين من تنمية معارفهم وقدراتهم وثقافتهم الحقوقية والقيمية؛ ليمارسوها بدورهم في يومياتهم ومواقفهم، سواءً على مستوى الفضاء المدرسي (الحياة العلمية)، أو بعد تخرجهم من المدرسة والتحاقهم بسوق العمل والحياة (الحياة العملية).
هذا التحول الاجتماعي يهمُّنا بالدرجة الأولى كمهتمين بعملية إصلاح التعليم؛ لأنه الأساس في نجاح المشاريع التطويرية التي يشهدها قطاع التعليم في مملكة البحرين.
حديثاً، أعلنت وزارة التربية والتعليم عن تنفيذ خطة لتعزيز مناهج حقوق الإنسان والتسامح والعيش المشترك بين الطلبة في مختلف المراحل الدراسية، حيث ذكرت أنها ستستقدم وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) خبيرين متخصصين بدءاً من شهر يناير/ كانون الثاني المقبل 2012؛ ليقوما بتدريب الكوادر البحرينية في مجال تأليف المناهج وطرق التدريس، ووضع الإطار المناسب لبناء هذه المناهج والأنشطة اللاصفية المعززة لهذه المفاهيم وللقيم المصاحبة، وأن الوزارة ستأخذ في الاعتبار التوصيات التي جاءت في تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن تعزيز قيم التسامح والحقوق بين الناشئة؛ دعماً للاتجاهات الوطنية الوحدوية نحو التسامح والسلام بشكل مباشر في اتساق تام مع القيم والثوابت الوطنية والقيم والثوابت الحقوقية الإنسانية.
نقرأ في توصيات اللجنة عبارة «الفهم الأفضل لاحترام حقوق الإنسان»، وبإمكاننا أن نعي ذلك إذا اعتبرنا مؤسساتنا التعليمية بمثابة «المجتمع الصغير»، والذي يتكون من سلطة ديمقراطية تلتزم بمبادئ ومعايير حقوق الإنسان، متمثلة في الهيئتين الإدارية والتعليمية من جهة، والطلبة من جهة أخرى؛ لننفتح مستقبلاً على «المجتمع الكبير»، ذلك المجتمع الذي يحدِّد لنا ملامح وشكل الدولة المدنية الحديثة وعلاقتها بالمواطنين.
إن توصية لجنة تقصي الحقائق بضرورة تشجيع التسامح بألوانه المتعددة إنما تأتي في سياق فلسفي وإنساني جميل، هي دعوة تلتقي مع أصوات وأطروحات الفلاسفة والمفكرين المتنورين الذين ناضلوا من أجل التحرر ومقاومة التعصب.
هذه التوصية قديمة، ولكنها ـ على مستوى الممارسة والتطبيق ـ تحتاج إلى إرادة وشجاعة المفكر الفرنسي فولتير، هذا الرجل الذي قارع التعصب والتطرف عندما أصدر كتابه عن التسامح في أوج المعركة التي دارت رحاها بين معسكرين: معسكر المتعصبين ومعسكر الفلاسفة، بشأن حرية الضمير والاعتقاد واحترام حقوق الأقليات من البروتستانت.
صحيح أن فولتير عانى الكثير في منفاه نتيجة لأفكاره التسامحية والمناوئة للتعصب التي اكتسبها من معلمه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك صاحب كتاب «رسالة في التسامح»، ولكنه في النهاية انتصر، فلا يختلف اثنان بأن أفكار فولتير هي التي مهدت الطريق لقيام الثورة الفرنسية
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3382 - السبت 10 ديسمبر 2011م الموافق 15 محرم 1433هـ
للاستهلاك
يجب ان يسود القانون اولا ثم تعليم و تربية بالمحاسبة سوف يكون الجدوه