هنالك للأسف الشديد مثقفون عرب لهم أسماء لامعة في الثقافة العربية، يحاولون أحياناً التطرق إلى موضوعات مهمة وحساسة ومصيرية، من قبيل لماذا تقدموا وتأخرنا، بالانطلاق من التساؤل النهضوي لشكيب أرسلان أحد رواد النهضة العربية: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب والمسلمون؟ وهؤلاء المثقفون يلفون ويدورون حول الموضوع ولا يجدون سبباً لتقدم الغرب وتخلف العرب إلا بامتلاك الغرب للسلاح وعدم امتلاك العرب له، أو بالأحرى صناعة السلاح وهذا التفسير هو أقرب ما يكون إلى المقولة الشعبية الدارجة بـ «فسر الماء بعد الجهد بالماء».
إذا كان السبب هو امتلاك الغرب لصناعة السلاح فإن هذا تحصيل حاصل، أي بسبب تقدمه الذي ساهمت أمور عديدة فيه، ولسنا في مجال ذكرها الآن ولكن تخلف العرب هل فقط بسبب عدم امتلاكهم السلاح؟.
إن السبب الأساسي لتخلف العرب هو الاستبداد، نعم الاستبداد، وقمع الحريات العلمية والسياسية، أين العرب من براءات الاختراع وأين موازناتهم للبحث العلمي وأين الحريات الأكاديمية وأين مستوى جامعاتهم من الجامعات العالمية وأين حرية التعبير في برلماناتهم ومجالسهم للشعب وأين الحرية والديمقراطية في الصحافة والإعلام والاقتصاد.
ففي ظل أنظمة الاستبداد تغيب دولة القانون والمؤسسات والحريات لتحل مكانها الدولة الأمنية بقوانينها الاستثنائية، وتنتشر ظواهر الفساد والمحسوبية والتزلف والانتهازية والإحباط واللامبالاة، وتنتعش الولاءات ما قبل المدنية (الطائفية والمذهبية والعائلية والعشائرية و…) الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إضعاف الدولة والمجتمع معاً. وهو ما يشكل الأساس الذي يمكن الدول القوية من الانقضاض على هذه الدول المستبدة الضعيفة والسيطرة عليها، إما بالطريقة الكلاسيكية المعروفة أي الاحتلال العسكري المباشر، وإما بالاحتلال غير المباشر عن طريق الهيمنة الاقتصادية وغيرها من أشكال الهيمنة.
النظام المستبد يستجلب استبداداً من نوع آخر هو الاحتلال، الذي تمارسه دولة بحق دولة أخرى. وفي حالة الاحتلال المباشر الذي تمارس فيه دولة الاحتلال القتل والقمع والإرهاب والنهب، تولد مقاومة الشعب الذي يتمكن طال الزمن أم قصر من هزيمة الاحتلال وانتزاع الاستقلال. فتخضع الدولة المستقلة في تطورها لثنائية الديمقراطية الاستبداد. فإن سارت على طريق الديمقراطية ضمنت تطورها وتقدمها، أما إذا اختارت الاستبداد فإنها ستسير باتجاه إعادة إنتاج خصائص الدولة الضعيفة والمفككة والقابلة للخضوع والتبعية والاحتلال.
الأمثلة عن دور الاستبداد في انهيار الدول والإمبراطوريات كثيرة، نذكر منها ما ترتب على الحرب الباردة من نتائج حيث انتصرت الدول (أوروبا الغربية، الولايات المتحدة) التي سارت على طريق تلك الديمقراطية، وحافظت على تقدمها واستقرارها، وعادت ألمانيا الشرقية لتلتحق بشطرها الغربي، لتكونا دولة ألمانيا الموحدة، بينما كان حصاد الأنظمة الستالينية المستبدة (الاتحاد السوفياتي، دول أوروبا الشرقية) التفكك والانهيار. كما نشير إلى تجربة أميركا اللاتينية، التي شهدت منذ مطلع هذا القرن، تقريباً، تحولات تمثلت في التخلص من الأنظمة الديكتاتورية المدعومة من الامبريالية العالمية، والسير في طريق الديمقراطية، ووصول أحزاب يسارية إلى السلطة، الأمر الذي أدى إلى تحسن ملحوظ في الأوضاع الاقتصادية، والحياة المعيشية لغالبية المجتمع.
هنا لابد من التأكيد أن استمرار الديمقراطية الناشئة وتطويرها، وليس محاولات التضييق عليها، كما يجري في فنزويلا اليوم، هو الضمان للاستقرار السياسي واستمرار النهوض الاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيزها. ولعلّ أقرب مثال حي، مازالت فصوله ماثلة أمامنا، حول دور الاستبداد بانهيار الدول، هو ما حصل في العراق من احتلال وانهيار دراماتيكي للدولة والنظام.
السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: هل يصح تعميم علاقة الاستبداد بانهيار الدول ورفعها لمستوى القانون العلمي؟ من الواضح أن هناك من يرفض ذلك مستشهداً ببعض التجارب، كتجربة الصين مثلاً، التي تبدو وكأنها تنفي كل الكلام السابق، حول علاقة الاستبداد بانهيار الدول، حيث حافظت الإمبراطورية الصينية على وحدتها، وصمد نظامها الشمولي في وجه رياح التغيير، بل إنها اليوم، تزداد قوة ونمواً وازدهاراً، في ظل نظامها الاستبدادي.
يسعى الباحث نبيل علي صالح إلى فهم العوامل المهيئة لنمو بذور الاستبداد في الاجتماع الديني العربي والإسلامي حالياًً، وهي:
1 - عدم قناعة النخب الحاكمة في مجتمعاتنا أصلاً بفكرة التغيير السلمي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث إنه من المعروف أن الأصل في الدولة أن تكون محايدة ومستقلة كرابطة مدنية تحترم استقلالية الفرد الحر المتساوي مع غيره، والقادر على تسيير أموره بنفسه، وتحديد أهدافه العليا بإرادته. وأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة والمساءلة، وأن الحكام بدورهم يجب أن يخضعوا للقانون والمحاسبة المستمرة، وأن الأمة هي مصدر السلطات (وهي ولية على نفسها) وليس الفرد الحاكم بمزاجه وجشعه وتكالبه على الكرسي والسلطة والثروة.
2 - العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها مختلف الثقافات والحضارات والأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي.
3 - وجود إعلام رسمي كثيف دعائي وغوغائي (وحالياً غير رسمي، إذ أصبحت كثير من وسائل إعلامنا العربية الخاصة مرتبطة بهذه الجهة أو تلك) تنحصر مهمته الرئيسية في التطبيل والتزمير لنخب الحكم، والتعبئة لأفكارهم وقناعاته، وتزييف عقول الناس وحجب الحقائق عنهم، وتسمية الأسماء بغير مسمياتها الحقيقية.
4 - التضييق على الأحزاب وباقي مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون شبه مستقلة عن الدولة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة والمجتمع.
5 - تمييع وتغييب القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الاستثناء والطوارئ الذي يقوم على قاعدة سوفياتية قديمة وهي: «يجب أن يفسد من لم يفسد بعد ليكون الجميع مداناً تحت الطلب»، وخصوصاً إفساد الجهاز القضائي والتعليمي التربوي.
6 - إن نظام الاستبداد ينصّب من نفسه وصياً على مصالح الناس والأوطان، ويقدم لهم نموذجه الفريد في الوطنية وخدمة المجتمع وهذا النموذج هو الولاء الأعمى والطاعة الكاملة للحاكم الفرد، بحيث يتمكن دائماً من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدّد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة قوى الخارج التي تريد نهب أوطاننا وغزو بلداننا وانتهاك كراماتنا ومقدساتنا.
وفي محصلة إجمالية لما آلت إليه النتائج المباشرة لتطبيق تلك السياسات الاستبدادية في مجتمعاتنا العربية، فقد وجدنا أنفسنا جميعاً أمام واقع مدمر ومحطم نفسياً ومادياً (عنف رمزي وعضوي)، وانتقالات سريعة من أزمات إلى أخرى، ما قاد إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة. وخصوصاً أن الوقت يمضي مسرعاًَ، ولا يرحم ولا ينتظر أحداً، وهو ليس في مصلحة القاعدين والمتقاعسين والمنهمكين في حرتقات وهلوسات داخلية هنا وهناك تشتت القوى وتبعثر الطاقات وتبددها عن الهدف الكبير
بأن الاستبداد هو آفة الشعوب، والاستبداد قاتل للإبداع قاتل للاختراع، قاتل للثقافة ومعرقل كبير للتقدم. وكما يقول قاسم عبده قاسم: «لم يعد مقبولاً قياس التقدم بعيداً عن الحقوق الأساسية للفرد والجماعة»، بمعنى أننا لا يمكن أن نتحدث مثلاً عن التقدم في ظل الاستبداد السياسي أو الخلل الاجتماعي الناتج عن سوء توزيع الثروة وتمكين فئة بعينها من نهب موارد المجتمع كله، وما يقترن بذلك حتماً من الارتباك والخلل في النظام القيمي والأخلاقي للمجتمع، فالاستبداد السياسي بطبيعته عائق أساسي في طريق التقدم لسبب بسيط يقترب من البداهة: إن الجماعة الإنسانية محرومة من حقوقها الأساسية لمصلحة فرد واحد أو جماعة واحدة.
التقدم/الاستبداد ثنائية متضادة متناقضة متنافرة، لا يمكن أن يحصل التقدم في ظل الاستبداد لأن الاستبداد في طبيعته قتل للتقدم باعتباره آلية كبحية معرقلة لنمو الحياة الطبيعية التي تسير إلى الأمام بخطى متكيفة مع واقعها وظروفها وملابساتها وحيثياتها، فالاستبداد كالجدار الفولاذي المانع لنسمات الحرية التي تساهم في تقدم وتطور المجتمعات الإنسانية إلى الأمام
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3379 - الأربعاء 07 ديسمبر 2011م الموافق 12 محرم 1433هـ