لا ثقافة اليوم بمنأى كلي عن المديح. ولو كان «مديح الظل»، جزءاً من عنوان الشاعر الراحل محمود درويش «مديح الظل العالي» أو مديح الضوء، أو مديح القيم النبيلة الغائبة أو المُغيبة في الحياة. المديح فعل وموقف خلاّق إذا ما كان في موضعه. ليس كل مديح ابتذالاً وتنطّعاً وزحفاً نحو المغانم. المديح إنعاش لروح يراد لها أن تذوي، وخصوصاً تلك التي تمسّ القيمة والمعنى والرحب من الهدف والمرمى.
ما أساء ويسيء إلى المديح، ذلك الذي يأتي على حساب القيم النبيلة لمصلحة الأهداف العابرة والزائلة والرخيصة والمبتذلة. أهداف آنية لا يجني منها المجتمع إلا مزيداً من الفصل والتمييز وتراكم الثروات السهلة، بالتعامل مع المناطق الرمادية الصادرة عنها. ما أساء إلى المديح، هم أولئك الذين يسوءهم أن يروا غيرهم في الفسحة من الحياة، بامتهانهم الكذب واتخاذهم التملق والرياء والإسفاف مطيّة لبلوغ مآربهم وأهدافهم.
مديح من قبيل مديح ابن هانئ الأندلسي، الذي لم يجد حرجاً في أن يقول للخليفة الفاطمي، المعز لدين الله:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهّارُ
وكأنما أنتَ النبي محمد
وكأنما أنصارُك الأنصارُ
في تنطّع يصل ذروته، وانبطاح يخجل البهائم، وكذب محض، مُتْبعاً النص الأول بآخر لا يقل عنه تنطّعاً وانبطاحاً وكذباً:
ندعوه منتقماً عزيزاً قادراً
غفّار موبقة الذنوب صفوحا
أقسمت لولا أنْ دُعيتَ خليفةً
لدعيتَ من بعد المسيح مسيحا
وألجأ إلى شواهد التاريخ، ليس لأن الحاضر قفر من سوء وصفاقة وخلاعة المديح في أكثر من زمان ومكان؛ بل يكاد يتجاوزه بمراحل؛ لكنه شح الفضاء، واحتمال مصادرة الهواء حين تسمي الشواهد وتنثرها، سينتثر بعدها دمك، أو ستنتثر في بلاد الله الواسعة بعيداً عن أوطان تلفظك كل يوم بسوء ممارساتها.
والاتكاء على التاريخ في هذا الصدد، يكشف كم هي الثقافة موغلة في الدم وفي الجينات لمن سيأتي بعد أولئك المتنطعين. جيل يخلف جيلاً بهكذا ممارسة وسلوك، هو بمثابة سُبّة في جبين أجيال تنتمي إلى أولئك المتنطعين بشكل أو آخر، وأعقاب لا تنقطع في الممارسة، والشواهد بعدد الهمّ ومساحته.
والملاحظ هنا، أن الذين تنطّعوا وتبرّعوا بهذا الدور القميء والمخجل هم طبقة المثقفين والرياديين في أمتهم بالأمس واليوم، أو من المفترض أن يكونوا كذلك. لم تتغير المعادلة كثيراً. مَنْ مارسها بالأمس ترك وعقد رايتها لمن يحملها في زمن سبل الحياة ومواردها أكثر وفرة وسهولة، وإن عمّ الفساد وغلب واستحكم.
موسيقار عصره وأحد المنتفعين من منظومة الفساد في الدولة العباسية: إبراهيم الموصلي المغنّي، لم يكفّ عن ترديد: «والله لو عاش لنا الهادي، لبنينا حيطان دورنا بالذهب» ذلك لأن الهادي بن المهدي أعطاه مرة خمسين ألف دينار لأنه غنّاه ثلاثة أبيات أطربته!
خمسون ألف دينار لا يتقاضاها رئيس تنفيذي لشركة طيران كبرى في الشهر، وباحتساب الخمسين ألف دينار قبل أكثر من ألف ومئتي عام أو تزيد، تدخل في عداد الخمسين مليون دينار، إذا ما عرفنا أن الدينار يسك من الذهب وقتها، وباحتساب سعره الجنوني اليوم، يتجاوز المبلغ 50 مليون دينار، نظير أبيات ثلاثة غنّاها في مجلس!
وبقدر التنطّع الذي يصر كثيرون على تسميته مديحاً، لا يلغي ممارسته المديح الذي يكرس ويعلي من القيم الأروع، والعمل على إضاءتها، ففي ذلك إضاءة لما يعتري الحياة من عتمة مطبقة، وفي ذلك إعادة النصاب إلى حياة تظل ممتحنة بالخلل والتجاوز
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3379 - الأربعاء 07 ديسمبر 2011م الموافق 12 محرم 1433هـ
بو محمد
أخبار صحتك عزيزي اليوم ؟؟؟
من تحدثت عنهم لا خيار لهم غير ذلك .. هذه الأوراق المحترقة دنيا قبل الآخرة لا تجد من يشتريها في غير البلاطات وهي لا تقتاق الا على ذلك والا فلا سوق لها حتى في أسواق النخاسة .. لأن السيد الشريف لا يشرفه هكذا صنف ليشتريه.
دمت بحب