ويمر العام تلو العام وهذه الثورة تتجدد تلقائيّاً لأنها بخلاف كل الثورات في العالم. فهي أول من أطلق معنى سلمية الثورة في العالم الإسلامي، وأن الحقوق لا تسترد بالسكوت عنها والخنوع لبطش السلاطين الأمويين. وكذلك لا تكون بإراقة الدماء لمجرد أنها ثورة.
في ثورة الحسين يكمن المعنى الحقيقي لكلمة «ثورة» والتي لم يتم استيعابها إلا مؤخراً، وليس بشكل كامل أيضاً، عبر الربيع الثوري العربي الذي يجدد العهد مع كربلاء، وإن اختلفت المسميات والمطالب، لكن النهج حسيني بامتياز. وهنا الحكمة الربانية التي لا يستطيع البعض هضمها أو استيعابها بعد. وما يحدث اليوم في الربيع العربي الذي أذهل العالم من حولنا يدحض من يدعي أن ثورة الحسين (ع) كانت دمويةً، وأن الحسين دعا إلى العنف وبقية الأئمة دعوا إلى السلم في تحركاتهم الثورية ضد الأنظمة الظالمة ورموزها خلال فترات حياتهم كافة. من يتمسك بهذا الادعاء والخلط في فهم ثورة أبي الأحرار وملهم الثورات، بسوء نية أو عدمه، لهو من الواهمين حقّاً لا تجنياً ولا بدعاً، وهو لم يدرس ثورة الحسين بشكل علمي منصف أبداً.
فلم يشهر الحسين (ع) سيفاً ضد رمز الحكم الأموي الظالم يزيد بن معاوية، ولم يشجع أية تحركات سرية مسلحة ضد الحكم حتى لا يُتهم بأن هناك أيادي خارجية من دول مجاورة تموّل الحسين (ع). ولم يقم بتمويل أي تنظيم إرهابي أو مجموعة من المرتزقة أو يرسل مفخخات هنا وهناك لقتل عباد الله من عقيدة معينة. بل جعل حركته علنية وسلمية في الوقت نفسها ومطالبها معلنة للعيان حتى قبل وصوله إلى دائرة كربلاء ومحيطها. ولكن كعادة رموز الطغيان في كل زمان سارعوا، حتى قبل دراسة تلك المطالب ومناقشتها مع مفجر الثورة وزعيمها، بإرسال قواتهم المجندة والمزودة بجميع الأسلحة وجلبوها من كل حدب وصوب وجعلوا على رأس قيادتها أعظم المنافقين وأشرس خلق الله، أمثال عبيد الله بن زياد، وشمر ابن ذي الجوشن، وابن سعد، وغيرهم. وذلك لمحاصرة دائرة كربلاء والتنكيل بمن اعتصموا بها بقيادة الحسين (ع). كل هذا حصل لأن قائد الثورة يعي جيداً معنى هذه الآية «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً» (60: النساء). وهل قامت ثورات الربيع العربي إلا ضد الطاغوت بمعناه العام والخاص في كل بلد.
فالحسين في ثورته التي فتحت الربيع الثوري لبقية الثورات يعلم أن الطاغوت هم حكام الجور الذين نهى المولى عز وجل عن التحاكم إليهم، ليس في قضية اقتصادية فقط كما يزعمون، بل في جميع القضايا المصيرية. فهناك طواغيت، مال، مكان، زمان، سياسة، ثقافة. والحسين هو من حذرنا خلال ثورته السلمية بأن الوقوف مع الطاغوت يجعلنا ندخل مدخلهم في الدنيا والآخرة كما أوضح المولى عز وجل في أكثر من موضع في كتابه العزيز. ومَنْ أفضل من الحسين وقد آمن وصدق بالكتاب واستوعبه فطبّقه خير تطبيق في ثورته السلمية بكربلاء. وكم ممن حولنا ركنوا إلى الطاغوت الذي حذّرنا منه القرآن وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فوقفوا وما زالوا ضد ثورات الربيع العربي لأنهم يشعرون بأنها حسينية المبدأ والهدف والنتيجة.
هؤلاء، وإن طال بهم العمر قليلاً فهم خسروا خسرانا مبيناً، دنياً وآخرة، وإن كانوا حمائم مساجد. ذلك لأن الشيطان قد ضحك عليهم وأضلهم ضلالاً بعيداً. فالشيطان لا يأتي إلا للمؤمن بشكل خاص أو المسلم بشكل عام ولا يقترب من الفاسق أو الكافر أو المنافق لأنه خارج الدائرة التي يعمل على غوايتها، ولكن المؤمن الصامد هو من يصبح مشروع الشيطان المتجدد دائماً.
ومن هنا، فقد ارتكزت ثورة الحسين على مبدأين أساسيين لم تحد في سلميتها عنهما، وهما: «أن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السّلة والذّلّة وهيهات منا الذّلّة». والثاني، كما قال الحسين (ع) في خطبته «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل ولا أقر إقرار العبيد». إذن هما مبدأ رفض الذلة والعبودية لغير الله، ولكن ليس بإشهار السلاح ترفض العبودية والذلة، وفي الوقت نفسه ليس معنى السلمية التي تتبعها الثورة العربية اليوم هو الاستسلام والاستكانة لمبدأ الرفض السلبي. بل السلمية كمنهج للثورة، كما هو الخط والنهج الحسيني، تلك القائمة على رفض الاستسلام والذل والهوان. وهنا علمت بقية الثورات ألا تحيد عن مبادئها لتصل إلى مبتغاها، إن عاجلاً أو آجلاً بالتركيز على هذين المبدأين.
وهناك فرق شاسع بين السلمية والاستسلام، فسلمية هدم سلطان الطواغيت والعروش وإيجاد التغيير الجذري في نظام الحكم بأسلوب سلمي يعتمد على الصبر في المواجهة والصمود في المطالبة بالحق لتحقيق الأهداف، هي المراد بسلمية الثورة الحسينية ونهجها.
كما أن سلمية ثورة الحسين لم تكن تعني عدم رد المظالم والتعدي على الحرمات والأعراض والممتلكات، بل إن رد الظلم بطرق سلمية هو دفاع عن النفس المحترمة التي حرم الله شرعاً إيذاءها، حتى ولو كان عضو في جسمك أنت، فكيف بقتل تلك النفس المحترمة أو قطع عضوك الذي في جسدك بحجة أنك حر فيه. فلا السلطة الجائرة يحق لها شرعاً أن تزهق أي نفس بغير وجه قانوني حقيقي، كما لا يحق للفرد أن يعبث بجسده أو يقتطع أي جزء منه أو يؤذيه بلا مسوغ شرعي أو قانوني. هكذا فهم الحسين (ع) الحق البشري الإلهي في وجه طاغية عصره، وجعله من مبادئ ثورته الخالدة التي يتجدد ربيعها اليوم كما يفهمه أصحابها. ومن يسير على درب الربيع الحسيني المتجدد في كل زمان ومكان لا بد أنه يعي جيداً أن السلمية لا تعني التفرج على قتل الأبرياء وهذا ما لم يفعله الحسين (ع). فهو كان يقدم مطالبه المحقة أمام الحكم الجائر ويدفع كل أذى عنه وعن عائلته وصحبه، وفطن لكل أساليب الخداع والالتفاف على مطالبه التي حاول أن يستخدمها الحكم الجائر ضده. لذلك فشل في خداع الثورة الحسينية، على قلة الناصر الآني لها، لأن مطالبها محقة زمنيّاً بلا شك.
وعلى رغم إصراره الشديد على سلمية ثورته وحماية أهل بيته وعرضه وممتلكاته؛ في الوقت ذاته ومن منطلق سلميته الثورية ومبادئه الإنسانية الإسلامية، لم يبدأ معسكرَ الأعداء بحرب ولا حتى بتحرش، ليس جبناً ولا خوفاً، وهل يجبن مثل الحسين أشجع الفرسان في جميع المعارك التي خاضها مع أبيه وغيره، لكنها مبادئ الثائر الحقيقي والبطل المناضل الذي ترك بصماته على تراب الوطن، فأينعت سنابل الثورات العربية تحت ظلال الربيع الحسيني
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3377 - الإثنين 05 ديسمبر 2011م الموافق 10 محرم 1433هـ
رائع. ..... في الصميم
أحسنت يا استاذ مقالاتك مميزة جدًا لمن يتعمق في قرائة المقال يقف على حقيقة الواقع المعاش،،، بالتوفيق والى الامام ،، وعظم الله أجورنا واجوركم ،،
الذكرى
ربط نوعي بالثورة الحسينية المباركة بربيع الثورات العربي ومن ثم العالمية منها وما أحوجها الى مبادئ وقيم ثورة ابى عبدالله الحسين عليه السلام.
وماجورين بذكرى إستشهاد ابى الاحرار(ع)...
مقالة رائعة
مقالة أكثر من رائعة ولها مغزى لمن يعتبر .. أستمر يا أستاذي