لقد كانت نشأة وظهور المجتمع المدني في الغرب وليدة لتراكم مجموعة كبيرة من المتغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي شهدتها المجتمعات الغربية، حيث أقيم كيان الدولة النفسي على قاعدة رفض المقدس (الحق الإلهي)، وربط المجتمع المدني بالمفهوم الدنيوي العلماني للاجتماع البشري، كما أنضج مضمون تعاقدي معاصر للحياة الاجتماعية والسياسية يتلخص جوهره في ما يأتي:
التحرر السياسي من أسر الانتماءات والعلاقات الولائية التقليدية الناتجة أساساً عن الجمود والتحجر الكنسي... طبعاً هذا لا يعني - بأي حال من الأحوال - تحرر الإنسان -فعليّاً وواقعيّاً- من الدين. لأن الإنسان يبقى - في داخل ذاته - حاضناً للدين وفطرة التدين.
رعاية حق الاختلاف، والتعدد والتباين في الآراء والنظريات، والتعارض في المفاهيم والأفكار، وضمان حرية حق المساءلة والمحاسبة والنقد للطروحات والرؤى المختلفة.
احترام حقوق الإنسان، وخاصة حقه في المشاركة - جزئيّاً أو كليّاً- في السلطة السياسية، وفي بناء الدولة وتقرير مصير الأمة والمجتمع.
إقامة حكم القانون والنظام المدني المنفصل تماماً عن سلطة الدين، بحيث يخضع له جميع المواطنين حكاماً ومحكومين من دون استثناء.
إذاً هذه هي بعض ملامح ومعالم تطور مفهوم المجتمع المدني في الغرب بصورة مختصرة... أما بالنسبة إلى إمكانية تطور مجتمعاتنا العربية إلى مستوى وجود مجتمعات مدنية حقيقية قوية موازية في حجمها الكمي والنوعي لسلطة الدولة القائمة من حيث إنه ضرورة لتحقيق الحريات والعدالة وإشراك الناس في موضوعة السلطة على نحو حقيقي نوعي طوعي لا وهمي كمي قسري.. فإننا نتصور أنه هنا تكمن المشكلة المزمنة... وهي «مشكلة الحكم والسياسة وإشكالية السلطة والحرية»، باعتبارها من القضايا الإشكالية الخطيرة التي فرضت وجودها على مجتمعاتنا، وألقت بظلالها السوداء على مصيرنا الحضاري. والواضح أن المشكلة السابقة تفاقمت مع محاولة الحكام والخلفاء المتعاقبين شرعنة الاستبداد والتسلط على قواعد معرفية من الدين الإسلامي ذاته... من هنا تكمن خطورة هذا النهج الفكري في أن تعمد النخب السياسية الحاكمة - عبر كل التاريخ - إلى إضفاء مبررات شرعية دينية (لها علاقة بالمقدس) لتسلطها وهيمنتها (الأبوية) على العباد والبلاد.
إننا نعتقد أن الطابع التسلطي والفرعوني -إذا صح التعبير- للدولة العربية والإسلامية منذ البدايات الأولى لنشوئها وحتى لحظتنا الراهنة، قد أضحى موروثاً ثقافيّاً وسياسيّاً تتناقله الأجيال العربية والإسلامية فيما بينها في مسيرتها التاريخية، حتى أن مزاجنا (وروحنا) لم يعد يتماشى مع الحرية والانفتاح والإيمان بروحية الاختلاف، وفضيلة التعدد في الرأي والفكر.
ولذلك فإن المطلوب أولاً - وقبل طرح وإثارة موضوعة المجتمع المدني - إجراء إصلاحات جدية حقيقية في عمق التفكير البنيوي السياسي العربي والإسلامي... أي من الضروري ربط مسألة المجتمع المدني بدعوة وفكرة الإصلاح والتغيير المنشود لمجتمعاتنا. وهذا الإصلاح المنشود والمرغوب فيه يصعب تحقيقه وبلورته على أرض الواقع من دون تغيير وإصلاح البنية الثقافية التي يتكون عليها وعي المجتمع.
من هنا مقولتنا أن الأزمة الحقيقية لمجتمعاتنا هي بالعنوان الأولي أزمة ثقافية معرفية بامتياز؛ تشكل تحدياً رئيسيّاً أمام عملية التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا. فالتلازم بين الثقافة والإصلاح هو تلازم حقيقي وبنيوي. ولن يكون هناك إصلاح حقيقي من دون بنية ثقافية حية ومعاصرة، لأنه لا يمكن لمؤسسات وهيئات المجتمع المدني العديدة والمتنوعة والتي ترفع شعار الفرد ثم الفرد (أصالة الفرد)، وتريد أن تعمل على ملء الفراغ السياسي والاجتماعي الهائل الخطير الناجم عن إحجام الناس (ومنعهم) في مجتمعاتنا عن المشاركة الفاعلة في السياسة نتيجة الضغط والقسر والخوف والرعب وسوء استخدام السياسة بقصد النهب والسيطرة والهيمنة لا بقصد خدمة الناس وتطوير المجتمعات، أقول: لا يمكن لتلك المؤسسات المدنية أن تنمو وتتزايد وتتطور وتزدهر في ظل هيمنة ثقافة استبدادية ماضوية عتيقة عفى عليها الزمان وغير صالحة للحياة والعصر... لأن المدنية على طرفي نقيض مع الماضوية والدينية.
أي أن الثقافة الحضارية المدنية التي تعلي من شأن وقيمة الإنسان، وتعتبره أساس بناء الأوطان والمجتمعات والحضارات، وأنه قادر بفكره وعقله وإرادته على جعل المستحيل ممكناً، لن تنمو وتتعمق وتؤثر تأثيراً بنيويّاً وفاعلاً وعميقاً إلا في جو صالح ومناخٍ صحي مؤات لنمو بذرة التطور والحداثة والمدنية.
طبعاً لا نضيف جديداً عندما نؤكد أن التربة الراهنة القائمة حاليّاً في مجتمعاتنا هي تربة متعفنة... قبيلة تسيطر عليها عصبيات متناحرة ممتدة أفقيّاً وعموديّاً فيها، وهي تعمل على استيلاد شروط ومناخات جديدة للتكيف مع متغيرات الواقع من أجل الحفاظ على مكاسبها ومواقعها.
من هنا السؤال: ما هي الأجواء المناسبة لإنماء وإيقاد عملية المواجهة المستمرة مع تلك الذهنيات البدائية التي تفكر دائماً بكيفية المحافظة على شرعيتها المفقودة جماهيرياً، من أجل بناء المجتمع المدني، وولوج القرن المقبل بطموحات سياسية وفكرية جديدة تعبر عن آمال الأمة في النهوض الحضاري؟! ثم إلى أين يتحرك مستقبل الأجيال المقبلة؟!.
إننا نعتقد أن الشرط الأولي لنمو المجتمع المدني في مجتمعاتنا العربية هو شرط ثقافي تربوي، يحتاج إلى زمن طويل وعمل كبير، وقبل ذلك إرادة لا تلين من قبل قوى ونخب التغيير... وذلك لكي تنمو مؤسسات المجتمع المدني نموّاً طبيعيّاً معافى، ولكي لا تصاب لاحقاً بالعجز والضعف ومن ثم السقوط لدى أية مواجهة لاحقة... طبعاً في حال لم يكن الشرط الثقافي حاضراً وجاهزاً وأساسيّاً في هذا المجال.
والعمل في القاعدة المجتمعية هنا هو الأساس حيث إنه ثبت بالتجارب التاريخية الحية أن بناء مجتمع المؤسسات لا يتم بإرادة فوقية علية أو بقرارات متعالية تسقط من الأعلى، وإنما هو نتيجة عمل فكروي ثقافي تربوي بمدى تخطيطي بعيد وفعل اجتماعي واعٍ يتجه بالعمل داخل المجتمع والنزول إلى القاعدة التقليدية للحياة الاجتماعية الثقافية لإحداث التغيير المطلوب في البناء الأساسي لمنظومة القيم الاجتماعية، حتى تتركز وتترسخ تلك القيم والأفكار أو المفاهيم الجديدة اجتماعيّاً وتصبح جزءاً من نسيج المجتمع في بنائه العلوي.
ونحن عندما نقدم فكرة «المجتمع المدني» - وما يتصل معها من قيم ومعايير ومناخات وأجواء من الحريات والديمقراطية، وو... الخ- كحل لأمراض مجتمعاتنا، فإننا لا نعطي حلاً سحريا أبداً، ولا نقدم وصفةً مجانية بسيطة يمكن صرفها من أية صيدلية.
إذاً، فالقضية أعقد من ذلك بكثير، ودونها الكثير من التحديات والعقبات والعراقيل الضخمة الداخلية والخارجية. ولا يمكن أن تأخذ - كفكرة عملية - طريقها للتطبيق إلا في ظل توافر القناعة والوعي والإرادة من قبل أفراد المجتمع، وأن يروا فيها خلاصهم ونهايتهم السعيدة، وأن لهم مصلحة حقيقية فيها وفي الدفاع عنها... بهذا الشكل يمكن خلق حراك اجتماعي ينمو مع الوقت ويكبر ويخلق آلياته الذاتية الرافعة في الخلق والإبداع مع مرور الزمن.
إننا نعتقد أن الرهان على العمل الثقافي المنطلق نحو تنمية الأفكار وبناء معالم تطور مجتمعاتنا الفكرية والعملية ووضع التصورات والبرامج الميدانية التي ترفع من مستوى وعي المجتمعات والشعوب من أجل إعادة بناء وإرساء واقع مجتمعي جديد يراجع مسيرته بعقلانية واعية، هو رهان حقيقي ويستأهل العمل عليه وخاصة عندما يبنى على بنية معرفية متماسكة ورؤية عقلانية منفتحة على الحياة والعصر، وإرادة فاعلة لا تركن ولا تلين.
إننا - ومن خلال إيماننا العميق بضرورة إحداث تغيير شامل في مجتمعاتنا كلها - نؤكد أنه يجب علينا أن نؤسس لنوعية التغيير المقبل، ونساهم - بعقلانية التخطيط والفاعلية - في بناء صورته، وتأسيس ملامحه في طبيعة تفكيرنا القائم، وطريقة اتخاذنا قراراتنا المصيرية، والأساليب التي نتبعها، والمناهج التي نلتزمها في تنظيم حياتنا. وهذا الأمر بالغ الأهمية وهو مقدمة ضرورية جدّاً لبناء المجتمع المنشود، وصناعة الحياة التي نطمح إليها
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3374 - الجمعة 02 ديسمبر 2011م الموافق 07 محرم 1433هـ