كثر الحديث خلال العقدين الماضيين عن موضوع «المجتمع المدني» وخصوصاً بعد وصول العالم الحديث - في مطلع الألفية الثالثة - إلى هذا المستوى المذهل من تقدمه وتطوره على الصعيد التقني الإعلامي وتقنيات الاتصالات والتواصل (الهائلة في اتساعها وامتدادها) والتي تسببت في إحداث صدمة عملية قوية في المجتمعات المتخلفة، أدت إلى انفتاحها على المجتمعات الأخرى الأكثر تقدماً وتطوراً من خلال قنوات الاتصال الإعلامية الواسعة المعروفة.
وقد تزايد الاهتمام مؤخراً بقضية المجتمع المدني، وعلاقته بالدولة و»المجتمع السياسي». وقد حدث ذلك منذ بداية تفكك وانهيار المشروع الشيوعي، ومنظومته السياسية الدولتية في العالم كله تقريباً، حيث بدأ الرهان يتزايد - يوماً بعد يوم - على قوة المجتمع وخصوصاً بعد نشوب حرب الخليج الثانية، وإحداث تغيير جذري في بنية السلطة والحكم السياسي العراقي، وظهور معالم جديدة لانتخابات متعددة في عدد من البلدان العربية والإسلامية، وبروز حراك سياسي عام يطالب بإحداث تغييرات كمية ونوعية على صعيد السلطة والحكم، وإشراك الناس في القرار والمصائر والمستقبل.
ويترافق الحديث الآن عن مشروعية هذا المجتمع - وأهمية مؤسساته وآلياته وتنظيماته المختلفة، وضرورة الانخراط بصورة مباشرة فعالة في بناء قواعده، وإنضاج مرتكزاته المجتمعية العربية - مع تجدد الاهتمام بمسائل فكرية ومعرفية واجتماعية مهمة جدّاً مثل قضايا الحرية، وحقوق الإنسان، والعولمة، وتحديات اقتصاد السوق، والتنمية، وأزمة الثقافة والمثقفين، وأزمات الحكم السياسي العربي... الخ.
على هذا الأساس سنعمد - في بداية بحثنا - إلى التعريف بطبيعة المجتمع المدني والسياسي، وآليات تطوره في المجتمعات الأخرى بشكل عام.
طبعاً من الصعب جدّاً إعطاء تعريفات شاملة ومحددة وجاهزة لمعنى أو ماهية المجتمع المدني في صيرورته التاريخية بسبب وجود اختلافات فكرية ومفارقات معرفية عميقة بين مختلف مدارس التفكير الحديث بشأن تحديد مواصفاته، وسماته، وتعريفه المحدد في طبيعة علاقات هذا المجتمع، وارتباطاته بالدولة السياسية الحديثة بصورها وتلوناتها المختلفة.
ومن خلال تدقيقنا في طبيعة الصراعات الأيديولوجية القائمة بين النظريات والطروحات الفكرية والثقافية السائدة حاليّاً، نجد أن موضوع المجتمع المدني قد أضحى الساحة الحقيقية لذلك الصراع الفكري في صلب حركته التاريخية الغريبة، في ما يتصل بضرورة بلورة صور واضحة ومعالم محددة - على المستوى النظري والمعرفي - عن التطور التاريخي للمجتمعات البشرية، حيث بدأت كل مدرسة تضفي على تنظيراتها التفسيرية لتاريخ الاجتماع البشري، طابع الفكر الخاص الذي تلتزمه منهجاً وخطّاً لها في حركة الحياة، سواء ما يتعلق منها بالنظرية الليبرالية وتعريفاتها الثانوية المنتشرة منذ عصر النهضة وحتى الآن، أو بالنظرية الماركسية وتأويلاتها المتعددة بشأن المجتمع والتاريخ.
لكننا على رغم الصعوبات العملية التي يمكن أن تندفع وتظهر عند تبنينا لتعريف معين عن المجتمع المدني؛ فإننا سنحاول إعطاء التعريف التالي لهذا المصطلح أو المقولة الجديدة التي لم يرد ذكرها في أي مجتمع من المجتمعات أو الموسوعات اللغوية العلمية والفلسفية العربية.
المجتمع المدني: هو نمط (أو نوع) من التنظيم الاجتماعي لسلوك الفرد في إطار ممارسته لواقع العمل العمومي ضمن مؤسسات وهيئات ثقافية واجتماعية ونقابية مدنية تمثل مصالح القوى والقيادات والجماعات في المجتمع، وتعمل باستقلالية -مفترضة من حيث المبدأ - عن أجهزة السلطة وسياسات الدولة، بحيث تشكل - تلك الهيئات المدنية - ثقلاً اجتماعيّاً وسياسيّاً له دوره المهم، وحضوره المميز، وتأثيره الفاعل والحاسم في موازاة سلطة الدولة السياسية من أجل منعها من التحول إلى دولة متسلطة تستبد بالسلطة، وتنفرد بالحكم عن طريق أدوات القمع المختلفة، من خلال تركّز السلطة والممارسة السياسية الحقيقية في أيدي تلك المؤسسات والهيئات الشعبية لكي تكون العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني تكاملية ومتوازنة، تتبع فيها الدولة المجتمع المدني. وبهذا يتصف المجتمع المدني بالتعدد في الرؤى، والاختلاف في وجهات النظر، والحرية، في طرح الأفكار، والوعي في ممارسة النقد الموضوعي كدلالة بارزة على سلامة وصحة الموقف والتنظيم الاجتماعي.
لقد ظهر مفهوم ومصطلح المجتمع المدني - أول ما ظهر - في الفكر الاجتماعي والسياسي الغربي. ولم يظهر دفعة واحدة بالتعريف المعطى له سابقاً، بل إنه استغرق مرحلة زمنية طويلة، ومر بأدوار تاريخية متعددة ارتبط فيها تطوره المفاهيمي بالصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي شهدته أوروبا منذ ثورتها الصناعية الأولى من القرن السابع عشر إلى يومنا الحالي في محاولات حثيثة للبحث عن وسائل جديدة تمكن من السيطرة على نزعة الحكم الطغياني، وكبح جماح الدولة الشمولية المستبدة.
لقد أرسيت دعائم المجتمع المدني في الغرب الحديث تدريجيّاً أيضاً عبر مواجهة حادة ضد الطابع الديني الكنسي الرث (المتخلف والقاصر) الذي كان مسيطراً على العقول والأفئدة آنذاك باعتباره يمثل المشروعية الدينية والاجتماعية وحتى العلمية.
لقد جعلت الكنيسة من بعض المعتقدات البشرية الوضعية - الموروثة عن بعض فلاسفة وعلماء الكلام المسيحيين الأقدمين- نصوصاً مقدسة، وحقائق علمية راسخة إلى جنب المبادئ الدينية الأصلية، واعتبرت كل مخالفة لها أو نقداً لسلوكها وفكرها يوجب الارتداد عن الدين. ولذلك فقد أنشأت الكنيسة جهازاً قمعيّاً بوليسيّاً (الإنكيزيسيسون أو محاكم التفتيش)، يتبع ويراقب ويتفحص عقائد الناس، ويتابع ما في ضمائرهم، ويحلل سلوكاتهم المختلفة. ويسعى إلى أن يثبت التهمة على المفكر والعالم لأي سبب كان... الأمر الذي أجبر كثيراً من العلماء على التفكير بما تفكر به الكنيسة، واعتباره واقعاً علميّاً صحيحاً.
وبعد صراعات طويلة حادة، كلفت الغرب معاناة شديدة ودماءً وضحايا لا يحصون، استطاعت حركة مشروعية المجتمع المدني في الغرب - التي أنتجتها ثقافة وفكر وفلسفة الغرب - أن تثبت وجودها، وتعلن انتصارها الحاسم على المجتمع الكنسي القروسطي المتخلف، وما رافقه من تقديم مشوه للدين إلى الناس بصور العنف والاستبداد والضغط والقهر، بدلاً عن تقديمه بوصفه مخلصاً ومنقذاً وهادياً ومبشراً بالمحبة والوئام والسلام.
ومن الطبيعي في ظل تلك الأجواء الضاغطة والمتشنجة، أن تكون ردود أفعال الناس على تلك الأساليب، التي لا تتناسب في الشكل ولا في المضمون، مع عمق الفطرة والطبيعة البشرية الوادعة والخيرة، مستنكرة ورافضة للدين وكل ما هو ديني، وبالتالي رفض الاعتقاد بالله، باعتباره حجر الأساس في المعتقد الديني.
وقد تسبب ذلك في ابتعاد الناس عن الدين الذي أصبح - في نظرهم - في مواجهة العلم والعقل، ونتيجة لذلك بويع العقل التجريبي الإنساني كمصدر وحيد للمعرفة وتشخيص القيمة والحقيقة، وأصبحت قيم الترف واللذة والاستهلاك المادي مصدر السعادة والمنى للإنسان، وأصبح الله مجرد فكرة خيالية لا أساس لها في عالم الواقع، وخالية من أي معنى في أذهان الناس، وليس لها أي تأثير في حياتهم، وأصبح التمتع باللذات الحسية والثروات المادية - من أقصاها إلى أدناها - حافزاً ودافعاً للنشاط البشري
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3373 - الخميس 01 ديسمبر 2011م الموافق 06 محرم 1433هـ