نقرأ في قصة «ألِيس في بلاد العجائب Alice»s Adventures in Wonderland» للكاتب الإنجليزي لويس كارول درساً فلسفياً رائعاً، فعندما تصل بطلة القصة (ألِيس) ـ تلك الفتاة الحالمة التي تدخل بلاد العجائب ـ إلى مفترق الطرق، ولا تعرف إلى أين ستتجه، تتوجه بسؤال إلى قطة: أي طريق أسلك؟ فسألتها القطة: أين تريدين الذهاب؟ فأجابت: لا أدري! فأجابت القطة: إذاً، لا يهمُّ أي طريق ستختارين!
إن تحديد اتجاه البوصلة أمر في غاية الأهمية عندما نتحدث عن تدريس مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في مؤسساتنا التعليمية والتربوية؛ لحسم الخلاف الدائر بين خلفياتنا المعرفية المسبقة من جهة، والأطر المرجعية والوثائق الدولية والممارسات العالمية المعنية بحقوق الإنسان من جهة أخرى.
وإذا كان مفهوم «الاستراتيجية» يركِّز على اختيار أساليب العمل أو التنفيذ المناسب في ضوء الإمكانات والموارد المتاحة لتحقيق الأهداف المرجوة، فإننا نعني بـ «الاستراتيجة الحِجاجية» في تدريس مبادئ حقوق الإنسان «تبني قضية من القضايا ذات الصلة بمبادئ حقوق الإنسان في الفضاء المدرسي، وعرضها للنقاش ما بين الرأي المؤيد والرأي المعارض؛ بهدف إقناع الطالب ليتخذ أحد الجانبين، مع الأخذ بعين الاعتبار رأي الجانب الآخر».
وبهذا المعنى فإن «الاستراتيجية الحِجاجية» لا تعدو كونها عملية يقوم من خلالها الطالب باتخاذ رأي مؤيد أو معارض، ولكن بشرط أن يقدِّم الأسباب الموضوعية لتبرير قضية معينة من خلال تنظيم المعلومات والأفكار عن هذه القضية؛ بهدف إقناع الطرف الآخر المقابل.
لم تحظَ نظرية «الحِجاج» باهتمام واسع في مؤسساتنا التعليمية إلا مؤخراً، ولكن اختزلت في النصوص الأدبية والدراسات النقدية، غير أننا وفي ضوء المشاريع التطويرية بالمدارس نرى أن الوقت قد حان لتبني استراتيجيات تدريسية من شأنها دعم التوجهات الديمقراطية والتعبير عن الرأي، وما يتطلبه ذلك من قدرة على الإقناع، فثمة حاجة ملحة لتحسين فهم الطلبة والعمل على بناء الحِجج العقلية المنطقية لمحتوى المادة الدراسية، واشتراك الطلبة في الحوارات والمناقشات؛ لأننا نقوم بتدريس مفاهيم عالمية كحقوق الإنسان وقيم التسامح والسلام والعيش المشترك وغير ذلك؛ ليتمكن الطالب من خوض مجالات التنافس بشكل فعال في عصر يرتبط فيه النجاح والتفوق بمدى قدرة الطالب على توظيف المهارات العليا للتفكير.
تتجلى أهمية «الاستراتيجية الحِجاجية» في تدريس مبادئ حقوق الإنسان بتعريف الطلبة على العديد من الأفكار والآراء المتباينة حول حقوق الإنسان، بوصفها قيماً عالمية لا تحدها أطر جغرافية بعينها، كما وتساهم في تنمية قدرات الطالب على التفكير التحليلي والناقد تجاه السلوكيات والممارسات الطلابية، سواءً تلك التي تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان أو التي تتعارض معها، وذلك بتقديم الأدلة من خلال الاطلاع على المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان؛ ليتمكنوا من أخذ أدوار فعالة للمشاركة في الحياة السياسية، ومختلف الموضوعات الاجتماعية والثقافية في المجتمع.
كما تكسب هذه الاستراتيجية الطلبة القدرة على الاتصال بالآخرين، واحترام وجهة نظرهم بعيداً عن النوازع الذاتية، بحيث يمتلكون الشجاعة اللازمة بعرض أفكارهم على الآخرين، وجعلها مطروحة على مائدة النقد والحوار والمناقشة.
تأخذ «الاستراتيجية الحِجاجية» في عمليتي التعليم والتعلم شكلين أساسيين، وهما: الشكل الفردي (الداخلي): عندما يتجادل المعلم مع ذاته، ويعرض ادعاء ما يدعمه؛ وذلك من أجل إقناع الطالب بوجهة نظره. والشكل الآخر هو الشكل الجماعي، عندما يشترك أكثر من طالب في حوار جدلي، ثم يدعمون آراءهم بالأدلة والبراهين بشكل منظم، وهو الشكل الذي يتطابق مع ما بات يعرف بـ «التعلم التعاوني»، الذي يجعل الطلبة أكثر نشاطاً وفعالية في التعلم؛ لأنهم يتعلمون معاً كما نشاهد ذلك في المجتمعات الديمقراطية التي توظِّف «الاستراتيجية الحِجاجية» لدعم عملية المشاركة السياسية والحريات العامة.
علاوة على ذلك فإن آليات الإقناع الحِجاجية لا تتحقق إلا عندما يقوم المعلم بإيجاد نوع من التفاعل والتكامل بين محتوى الموضوع الذي يقوم بتدريسه (مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني)، وصوغ الأفكار وتنظيمها بالأسلوب الأمثل لتلائم الطريقة الحجاجية الإقناعية، وذلك بهدف التأثير على آراء وسلوكيات الطالب تجاه مختلف القضايا المتعلقة بمفاهيم حقوق الإنسان.
ربما يضطر المعلم أحياناً إلى تبني «الاستراتيجية الدمجية» في تدريسه لمبادئ حقوق الإنسان، كأن يلجأ إلى استراتيجيتين في آن واحد «الاستراتيجية الحِجاجية واستراتيجية تمثيل الأدوار»، بأن يقوم الطلبة بتمثيل أدوار يتم تحديدها سلفاً، في شكل حالة أو سيناريو كمحاولة لمحاكاة الواقع، عندما يكون هناك شبه إجماع على فكرة معينة من غير وجود معارضين لها، فحينئذ يتقمص الطلبة دور المؤيدين والمعارضين، وفي هذا المجال يقدِّم لنا القرآن الكريم أنموذجاً رائعاً كما في قصة النبي إبراهيم (ع) عندما تقمَّص دور الباحث عن الحقيقة في آلية حِجاجية وحوارية مع قومه؛ لدحض فكرة عبادة الكواكب والقمر والشمس (ارجع إلى سورة الأنعام، الآيات 76 ـ 79).
لدينا أمثلة وشواهد كثيرة على فاعلية العمل بـ «الاستراتيجية الحِجاجية» ليس على مستوى تنمية الوعي (الجانب المعرفي) بمبادئ حقوق الإنسان في الصفوف الدراسية بين الطلبة والمعلمين فحسب، وإنما في توظيفها على مستوى الإدارات المدرسية والقيادات التعليمية والمسئولين وصناع القرار لتخدم العملية التربوية برمتها، كما طُبِّق مؤخراً مشروع «الزي المدرسي الموحد»، بالمرحلة الثانوية (ذكور)، لنؤكد أهمية الحِجاج بين من يؤيد هذا المشروع؛ لأنه يعزز حق المساواة وعدم التمييز والانضباط وغير ذلك، ومن يعارضه لأنه يصادر الحريات الشخصية للطلبة.
في الأسبوع الماضي دخل وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي في جولة حِجاجية مع عدد من النواب المعارضين أو المتحفظين على قرار تمديد اليوم الدراسي، حيث استعرض معهم خطة الوزارة لتطوير اليوم الدراسي بواقع 45 دقيقة في المرحلة الثانوية، وقدم لهم شرحاً عن خطة الوزارة ومبرراتها لتنفيذ هذه الخطوة التي تهدف إلى الارتقاء بمخرجات التعليم.
نحتاج في مؤسساتنا التعليمية إلى تفعيل «الاستراتيجية الحِجاجية» بأن تتسع دائرتها لتشمل كل المعنيين بالعملية التعليمية (المعلمين والطلبة وأولياء الأمور) وهو أمر مطلوب ولا مفر منه
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3368 - السبت 26 نوفمبر 2011م الموافق 30 ذي الحجة 1432هـ