في أفق السياسة كما أفق الثقافة، لا يستقيم موقف في الأولى، كما لا تستقيم فكرة أو طرح في الثانية، ما لم تكن قد تاخمتْ والتحمت بموضوع الموقف، موضوع الفكرة والطرح. كما يحدث في المختبرات تماماً وما يتم من رصد ومعالجة مكوِّن وتحليله والوقوف على تأثيره وتأثره بعناصر ممزوجة متداخلة، أو وحْداناً في أحيان أخرى.
السياسات من المفترض بها أن ترتب حيوات الناس وتنظمها تحت مظلة من القانون ومظلة من الاجتماع المستقر. ذلك الترتيب لا يجيء بنتائجه التي يتوخى ويريد ويتطلع ويطمح. يحدث أحياناً أن ينقلب مثل ذلك الترتيب إلى إمعان في الفوضى والتفكّك وإرجاع كل شيء إلى «منظومة من الفشل والشلل».
حين تنظـِّر السياسة من خارج واقع الناس ومن خارج احتياجاتهم، ومن خارج المآزق التي تعتريهم، إنما تتهكم عليهم من جهة، وتعمّق من غربتهم ومعاناتهم في ظل مآزق تحاصرهم بالجملة، وتتراكم مع مرور نظر السياسات إليها وكأنها لم تكن، من جهة أخرى.
وعلى صعيد الثقافة ذاتها، يحدث كثيراً أن تنتج اللاقيمة واللامعنى. ويحدث أحياناً أن يشكل بروز مثل تلك الثقافة المنفصلة عن موضوع طرحها وفكرتها التي من المفترض أن يكون محورها المجتمع بإنسانه وبيئته وثقافته ومعتقده وحريته وحقوقه، وبكل قضاياه وإشكالاته ومواضع النقص والتفكك فيه، وحتى مواضع القوة والمنعة. أقول يحدث أن يشكّل بروز مثل تلك الثقافة المنفصلة عن واقع المجتمع والإنسان مأزقاً يضاف إلى حُزم من مآزقه، في الفهم والاستيعاب ومحاولات الخروج عليها، نحو أفق أرحب ومعالجات أجدى، ونظر أعمق يقترح الحلول ويعمل عليها، من دون أن يدَّعي - أو تدّعي تلك الثقافة - قدرته/ قدرتها على تقديم حلول شاملة، كما هو الحال مع السياسة، في انفصالها ونظرها خارج موضوع درسها وممارستها.
لا تحكم السياسات العربية اليوم النظرة الشاملة إلى الفجوات والمآزق والإشكالات، ومن ثم المبادرة إلى محاولة وضع تصورات من جهة، وتفعيل تلك التصورات على الأرض من جهة أخرى؛ عدا الحديث عن وضع رؤى وتصورات لما قبل حدوث الأزمات والإشكالات. السائد أن السياسات تلك تنتظر حدوث الأزمات والإشكالات، ومن ثم تعِد (فقط تعِد) بوضع حلول لها، وتظل طي النسيان كلما أطلت وتراكمت أزمات وإشكالات جديدة..
والثقافة المنفصلة عن واقع المجتمعات والناس، هي الأخرى على متاخمة مع تلك الرؤية المتعلقة بالسياسات، ما لم تدفع بوعي الناس إلى مزيد من إنتاج قيَمه، والنظر إلى العالم والإنسان في مجموعه باعتبارها مصدر وقيمة كل معنى ينتج عن أي ثقافة تتوجّه إليه، وترصد تفاصيله.
كل سياسات منفصلة عن واقع الناس واحتياجاتهم وإشكالاتهم ومآزقهم، هي محض ترف، لا يستفيد منه سوى مهندسيه والقائمين عليه، ولن يطول الناس شيء من وراء ذلك الترف، سوى مزيد من بؤسهم وشقائهم، ومزيد من بحثهم الدائم عمّا يعيد إليهم اعتبارهم كبشر، ويعيد إليهم اعتبارهم كأساس ومركز وموضوع للسياسات ومنطلق لها.
وكل ثقافة منفصلة عن واقع الناس ومآزقهم وإشكالاتهم، هي محض ترف في صوره ودرجاته الرديئة. درجاته التي لن تعود بالنفع حتى على الذين يضخونها في شرايين المحيط الذي تتحرك فيه فتزيده تخلفاً وتراجعاً.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3367 - الجمعة 25 نوفمبر 2011م الموافق 29 ذي الحجة 1432هـ