ربما يجر هذا المقال عتباً، أو سوء فهم؛ لكنني ماض فيه. ماض فيه لأن أكثر البيوت العربية اليوم، باتت تتعامل مع الأب باعتباره صرَّافاً آلياً، وهو بالمناسبة صرَّاف لا يقبل إيداع الأموال أو الشيكات. صرَّاف وظيفته الرئيسة والأولى والأخيرة:السحب!وأحياناً الجر!
يلتفت علماء النفس في عالمنا - حتى علماء النفس تم إدخالهم في قطاع التوصيف الطارئ - إلى سوء التربية والانفلات والتهوُّر في تشخيص شبه نهائي مركّز سببه الأسرة، وصرَّافها الآلي؛ ولكنهم يغضّون الطرْف عن أي قصور وقلة حيلة وعجز وسحب على المكشوف وما دون الصفر يعانيه الأب/الصرَّاف الآلي؛ ما ينتج عنه أحياناً جنوح وانفلات، وأحياناً تهديد لمجتمع بأسره، تتحمل جزءاً منه الدولة التي تسعى في كثير من سياساتها إلى الإفقار والإذلال ووضع المنتسب إليها في خانة الارتهان والحاجة إليها ولكنها ليست مستعدة أن تدفع استحقاقاتها.
الدولة العربية صرَّاف آلي يستقبل الإيداع هذه المرَّة ولا طاقة له وليس مستعداً أن يبرمج على الدفع. ليس ذلك من شيم الحداثة بعد التخلف والإيوانات بعد الخيام وقضاء الحاجة في الخلاء بعد قضائها في طيور معدنية تجوب الآفاق. والحاجة المصطنعة التي تضع الدولة مواطنها تحت رحمتها تتم في ظل النهب والسرقات والتجاوزات وتوزيع الثروة على «الربَّاطية» والمنتفعين والمتسلقين والمنبطحين وفقهاء السوء وخبراء التحريض وشرفاء الأزمات والعاملين عليها رتماً وإيقاعاً!
عوداً على بدء. الأب العربي بهكذا واقع وتوصيف لا دور له سوى أن يكون صرَّافاً آلياً، ولا تحتاج العائلة إلى رقم سري للولوج إلى شقائه. فقط حالة إغماء وصوت عال وهياج مصطنع واكتئاب مدبّر وانتحار اصطناعي ومقاطعة في الكلام لأقل من ساعة كفيلة بأن تقنع الصرّاف الآلي بتفريغ ما يحتويه، بـ «تفريغ جيوبه» حتى لو لم تكن له جيوب. سؤال من أين تتمّ تعبئة الصرّاف الآلي ومصادر الصرف، يعد من أندر الأسئلة وأقلها التي يواجه بها الأب العربي اليوم، وخصوصاً في ظل دول «حمَّالة الحطب».
لا الحقوق ولا العملات الأجنبية تستطيع أن تحفظ لمواطنها اليسير من قيمته، ولن يستطيع المال بأي حال من الأحوال أن يقوم بالدور كله. الأهم من المال أن تشعر الدولة أن رأس مالها الحقيقي ليس الاحتياطي من العملات وغطائها الذهبي في المصارف المركزية (كان ذلك قبل أكثر من عقود ثلاثة ولم يعد له أي ارتكاز في السياسات النقدية لكثير من دولنا، على رغم احتفاظها برصيد من المعدن الأصفر).
لا نريد للأب أن يتحوَّل إلى صرَّاف آلي في بيته، كما لا نريد في الوقت نفسه للدولة العربية أن تتحوّل إلى صرَّاف آلي أيضاً من دون أن ننسى الحق في المواجهة والتصدّي بالقانون والطرق التي يشرعها الدستور، لكل محاولات أن تتحول الدولة إلى جابٍ ومحصّل لا تستوعب هندسة تركيبه أي خانة للسحب، وكلها شهوة واستعداد وتحفز للاستيلاء والمصادرة في أسوأ صور المعنى الذي نحن بصدده، إذا اكتفينا بالنظر إلى الآلية الشاملة، من ضمنها الإيداع وليته إيداعاً اختيارياً من دون قسر.
قبل عقود، كان الصرَّاف الآلي بالنسبة إلى إنسان هذا الجزء من العالم خصوصاً، والعربي عموماً كنزاً من القناعة ظل واثقاً طوال عمره أنه كنز لا يفنى يسحب منه بالرضا والبساطة والسماحة والثقة. لكن مع التحولات الجذرية التي طرأت على مجتمعاتنا وتغوُّل الفساد فيها، في الوقت الذي أخذ الذين يمعنون في الفساد موقع الصدارة، بات اللص الذي ينهب الفقراء بحماية أكثر من غطاء، صرافاً آلياً للإيداع والمصادرة والاستيلاء، وبات الضحايا طوابير من المدينين له من دون أن يبذل قطرة عرق أو قيمة أو جهد، وشتّان بين الصرَّافين الآليين
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3365 - الأربعاء 23 نوفمبر 2011م الموافق 27 ذي الحجة 1432هـ
استاذ جعفر لك التحيه
اليوم يولد الجمري موقت الحصالات كنت انتظر مقال منك رنان في يوم كهذا وكنت انتظر مقالك لاعقب عليه كلعاده ولاكنك حرفت البوصله ذهبت الى موضوع بعيد وكائنك تلفوني العتيق خارج التغطيه بس ذاك على طول اه يجعفر لوجدي موجود الله يرحمه ويرحم اجدادك لقال لك مثل دائما يردده في مناسبات كهذه(يحسبونه في الغوص وهو في الجارم) فلغوص بعيد جدا عن شواطىء السنابس اما الجارم فهو ثلاثه كيلومترات تقريبا استاذ جعفر انتظر مقالك بكره بفارغ الصبر ترى رائحه نسيج بني جمره اشمها في حبر قلمك ودمت