في آخر قفشاته، خرج الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليعلن للعالم أن النقاب رمزٌ لاستعباد المرأة.
الرئيس الذي أثار الكثير من الجدل في بلاده حين طلّق زوجته «الثانية» (سيسيليا) يوم وصوله إلى قصر الاليزيه، بعد زواجٍ دام 11 عاما، ليقترن بعشيقته عارضة الأزياء الإيطالية، يتكلم أمام النواب الفرنسيين عن كرامة المرأة واستعبادها.
الرئيس الذي نصّب نفسه حاكما على قيم وعادات وأديان الشعوب الأخرى، بعث زوجته الجديدة (الثالثة) إلى أفغانستان لتغنّي لجنود الاحتلال الأجنبي للترويح عنهم في عزلتهم القاتلة بين الجبال. و«الغورو» الذي يتكلّم اليوم عن كرامة المرأة بيعت صورة زوجته (كارلا) وهي عارية في المزاد بـ 4 آلاف دولار... فقط!
كبير قساوسة «التنوير» في القرن الحادي والعشرين، سار خلفه مجلس النواب الفرنسي، فشكّل «بعثة استكشاف» لستة أشهر لدراسة هذه الظاهرة، رغم علمهم بأنها مازالت «هامشية جدا» بين المهاجرين. فأنت أمام صورة كاريكاتورية لمحكمة تفتيش جديدة مهمتها ملاحقة النقاب، كما كان البابا القديم يلاحق بقايا المسلمين في الأندلس ويهدم الحمّامات العامة التي كانت منتشرة بكثرة، لأن النظافة كانت من تقاليد المسلمين!
لسنا في صدد جدلٍ أو مقارنة ثقافة الحجاب بثقافة العري، لنفرض قيمنا ومقاييسنا على الغربيين، ولكنا كشعوب شرقية لا تقبل بأن يفرض الآخرون قيمهم ومعاييرهم علينا. فهناك رؤى مختلفة، وأديان مختلفة، وفضاءات حضارية مختلفة... ومن كل هذا التنوع الخلاق يستمد العالم كل هذه الألوان.
هذه النظرة الضيّقة المنغلقة، لا تليق برئيس دولةٍ كبرى، كانت مصدرا لقيم التنوير، ولذلك كان من أول منتقديه مدير مكتب منظمة «هيومن رايتس ووتش» في باريس جان ماري فاردو، إذ أصدر بيانا ينتصر فيه لقيم الجمهورية الحقيقية، فهذا الموقف المتطرف يعتبر تعديا على الحقوق الأساسية وتطاولا على القناعة الدينية وحرية التعبير. وهو ما أوجزه فاردو بعبارةٍ بليغةٍ حين قال: «إن حظر البرقع لن يحقّق للنساء الحرية». فاختزال الحرية بالبرقع إنما هو عملية تسطيح للوعي.
البعض يرجّح أن الفرنسيين يحاولون «تطفيش المهاجرين»، في سياق إجراءات أخرى ينتهك بعضها الخصوصية بأبشع الصور، من قبيل فحص عذرية النساء عند دخول فرنسا. والبعض يراها اتساقا مع النفس مع تنامي موجة العداء للأجانب في عموم القارة الأوروبية الاستعمارية العجوز. إلا أن المفارقة المريبة أن تتم مصادرة أبسط حقوق المرأة في اختيار لباسها، باسم الدفاع عن حقوق وكرامة المرأة!
أقوى ردود الفعل ربما جاءت من السعودية الشقيقة، فأحد الكتاب ردّ بقوله: «ما هو غير المحتشم أو المسيء للأخلاق العامة: النقاب أم البيكيني؟»، وتساءل آخر: «ماذا سيكون رد فعل الفرنسيين لو أن دولة إسلامية منعت الغربيات من كشف رؤوسهن واعتبرت ذلك ضد عفة المرأة؟». وهو سجالٌ طبيعيٌ ومتوقعٌ لشيوع النقاب وتغلغله في الحياة الاجتماعية هناك. ومهما قيل عن طموحات المرأة السعودية اليوم فإن هناك تمسكا واسعا بالنقاب، ولو من باب احترام العادات والتقاليد، فضلا عن الناحية الدينية.
أغلبية المسلمين لا تؤمن بوجوب النقاب، ولكنها لن تقبل بصدور فتاوى مستحدثة من عاصمةٍ غربيةٍ، تحوّل رئيسها العلماني إلى بابا جديد!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2485 - الجمعة 26 يونيو 2009م الموافق 03 رجب 1430هـ