توماس هوبز يقرّر: «وقت الفراغ هو أبو الفلسفة»، ووقت الفراغ لدى بعضنا أبو الشتائم و»قلة الأدب».ووقت الفراغ يمكن له أن ينتج فلسفة بالتأمل والتفكّر والتعقل، وليس بالاحتقان والانهيار العصبي و»الزار» والترصُّد، والأحكام المسبقة.
«الفراغ المُنتج»هو الذي نشأ عنه هذا التحوُّل المدهش على أكثر من مستوى في العلوم والمعارف والفنون والآداب، وحتى النقيض لها: أسلحة الدمار الشامل والمحدود.
أوقات الفراغ المنتج هي التي أنتجت الأفكار والنظريات التي غيّرت وجه ومصير وإيقاع هذا العالم؛ فيما كثيرون أسهموا بفراغهم في تعاسته وشقاء وتخلف بعض سكّانه، إمعاناً في اللهو والتجاوز و»التنبلة»!
حتى الإنسان الأول في الغابات والكهوف، لم يخرج من عتمته لأن جدول أعماله مكتظ بالالتزامات والفعاليات. خرج من تلك العتمة لوفرة في الفراغ، بدءاً بتأمين حياته، مروراً بمقاومته للطبيعة، وليس انتهاء بتحصين نفسه من الأوبئة.
ويمكن لوقت الفراغ أن يصنع منك مصلحاً اجتماعيّاً، ويمكن له أن يصنع منك إرهابيّاً يزنّر نفسه بحزام ناسف يأخذ معه في الطريق مئات الضحايا المشغولين بعرقهم وهمّهم وحتى تأملهم وأحلامهم.
مشكلة العالم المتخلف اليوم هو عجزه عن إدارة الوقت، وجهله بهندسته. يسرف فيه كما يسرف في المياه التي ستنفد، وكما يسرف في الدماء التي لا حرمة لها عنده.
لا حرمة للزمن/ الوقت. شعوب تضع آخر صرعات الساعات وأغلاها ثمناً على معاصمها، لكنها لا تعيره أدنى قيمة أو احترام، ويتسلل من معاصمها وأعمارها كما يتسلل التراب من بين كف أحدهم وهو مطنب في صحراء يأوي إليها بعيداً عن ضجيج المدينة، في شكل من أشكال الرفاهية، ولا علاقة للأمر بالتأمل.
وأكثر الذين لا ينتجون في أوقات فراغهم، وإن كانوا مبدعين، هم عاطلون عن العمل والتفكير والقيمة. وُجدت أوقات الفراغ لتمنح الإنسان فرصة إضافية لإبراز طاقاته وإخراج مخبوئه، ثم إنه لا وقت فراغ لدى الذين هم على تماس دائم مع الوقت والزمن. أوقات فراغهم فسحة للمؤجَّل من المشروعات والذي تم ركنه من الأفكار. كما أن الذين تكتنز عقولهم بالأفكار يظلون مزدحمين وباحثين عن وقت إضافي، يرى بعضهم أن دورته في اليوم والأسبوع غير كافية. تراهم حتى في ساعات راحتهم الشحيحة مشغولين بما وعدوا أنفسهم باستئنافه والنظر والبحث فيه. طاقات لا يحدُّها زمن؛ بل يعجز عن استيعابها وإتاحة مدى لتحركها وتفريغ طاقاتها.
وفي الأمكنة المزدحمة والمكتظة لا ترى التفاصيل. ترى الشكل المتطاول.ترى سمْت الأبنية في صورتها الماثلة والعابرة، تماماً كما هي رؤيتك في الزحام البشري. ترى كتلاً من اللحم والوجوه العابرة التي لا تعنيك في شيء. الفراغ في الأمكنة هو الذي يتيح لذهنك مساحة من ازدحام، وتعدد النظر إليه، تماماً هو الأمر مع ندرة الزحام البشري؛ إذ يتيح لك فرصاً لتأمل الوجوه وقراءتها وتقرير تآلفك أو نفورك منها.
لا معرفة في اكتظاظ وازدحام، ولا تأمل فيهما. وحده الفراغ الذي يتيح لك ذلك.
عوداً على بدء. التعامل مع الفراغ في صوره الرديئة والقميئة، صناعة وامتياز عربي. لدينا 365 يوماً في العام كلها شارات وعلامات فراغ؛ بالنظر إلى واقع أوطاننا وواقع أمزجتها واستهلاكها وإمعانها في تبني وجهة التقليد في صورها الرديئة والقميئة أيضاً. الفراغ يحكم هذا الجزء من العالم من قدمه إلى رأسه، إن كان له رأس أساساً.
الأمم المشغولة بإنجازها لا تعرف إلى الفراغ سبيلاً، وحين تنجز تمنح نفسها سانحة من مرح، وسانحة من ترويح عن النفس، بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا على موضوع ذلك الترويح. لن يلومك أحد حين تنجز فرضك ودورك على التسكّع والسهر؛ لكنك ستكون خارج درس الاحترام وقيمته حين تنتظر من أحدهم أن ينجز فرضك ودورك لتتسكّع وتسهر وتعبث بالوقت والزمن؛ فيما أنت عار وعالة على الوقت والزمن.
في النهاية خلق الفراغ لنملأه بما يجعل هذه الحياة عموماً، وحياتنا خصوصاً، أكثر يسراً وسهولة، بمزيد من تحريك العقل والمخيلة، وبمزيد من بعث روح الابتكار وتوليد الأفكار والقيم، ولم يخلق لنواريه في عبث له أول من دون أن يكون له آخر.
وفي اللهجة الدارجة «اقتل الفراغ» دليل فشل وموت. قتل الفراغ دليل تفاهة في المعنى، ودليل لا جدوى من حضور ومعنى الساعي وحامل نية القتل. قتل الفراغ قتل زمن وعمر هو من أعمارنا، وإحياؤه بمزيد من الحضور والانتباه، تعزيز لقيمة الحياة من ألِفها إلى يائها
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3362 - الأحد 20 نوفمبر 2011م الموافق 24 ذي الحجة 1432هـ
خلق الفراغ
خلق الفراغ لنملأه بما يجعل هذه الحياة عموماً، وحياتنا خصوصاً، أكثر يسراً وسهولة، بمزيد من تحريك العقل والمخيلة، وبمزيد من بعث روح الابتكار وتوليد الأفكار والقيم، ولم يخلق لنواريه في عبث له أول من دون أن يكون له آخر
مبدع يا الجمري
أكثر الذين لا ينتجون في أوقات فراغهم، وإن كانوا مبدعين، هم عاطلون عن العمل والتفكير والقيمةز
تسلم على المقال الراقي
ابداع جعفر الجمري
ياليتهم يفهمون "الفراغ المنتج"