العدد 2485 - الجمعة 26 يونيو 2009م الموافق 03 رجب 1430هـ

الصراع بين دولة المرابطين وحركة الموحدين

ابن باجه وعصر الاضطراب (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ولد ابن الصائغ المعروف بأبن باجه في مدينة سرقسطة في أجواء مضطربة سياسيا في الربع الأخير من القرن الخامس للهجرة. لا تعرف السنة التي ولد فيها إلا أنه عاش فترة طفولته وشبابه عشية انهيار دويلات الطوائف إذ عاصر فترة المستعين الثاني (478 - 503 هجرية) وهو آخر أمراء بني هود حكام مقاطعة سرقسطة ولاردة وتطيلة.

جاء محمد بن يحيى بن باجه (أبو بكر السرقسطي) من أسرة تمتهن الصياغة (الذهب والفضة). وبسبب ثراء عائلته وموقعها الاقتصادي المرموق أرسله والده لدراسة الطب والرياضيات والمنطق والهندسة فبرع في مختلف الحقول، الأمر الذي رفع من مكانته في المدينة كعالم في الرياضيات والمنطق والهندسة وكعارف في الطب والموسيقى.

عاش ابن باجه تحولات سياسية خطيرة أحدثت انعطافات نفسية حادة في تطوره الفكري. وجاءت التحولات الكبرى في مطلع شبابه حين ارتكب الفرنجة مذبحة ضد المسلمين في مدينة طليطلة سنة 478 هجرية/ 1085م. آنذاك دب الخلاف بين أمير سرقسطة (المقتدر بن هود) وأمير طليطلة القادر بن ذي النون. وطلب الأخير الحماية من ملك الفرنج الفونس مقابل دفع جزية له. فلبى الفرنجة الطلب إلى أن استنزفت موارد طليطلة فقام أهلها بثورة ضد أميرها فاستغل الفونس المناسبة واقتحم المدينة واخضعها للحكم الأفرنجي.

أحدث سقوط طليطلة وهي المدينة التي تولى صاعد الأندلسي أمر القضاء فيها إلى سنة وفاته 462 هجرية (1069م) صدمة كبرى في العالم الإسلامي آنذاك ودب الهلع والخوف بين «أمراء الطوائف».

وأخذت فكرة إعادة توحيد الأندلس في دولة مركزية تنتشر بين المسلمين للرد على تحديات الفرنجة. وانتشر مفهوم الوحدة بين القيادات السياسية الأندلسية، فاندفع العلماء والفقهاء باتجاه تحقيق ذاك الحلم مستفيدين من مخاوف الأمراء. وتوافقت تطلعات الفقهاء والعلماء مع مخاوف المثقفين الذين أخذوا يبحثون عن وسيلة مجدية لوقف الزحف الإفرنجي وحماية ما تبقى من مواقع حضارية في تلك الديار.

تحت الضغط النفسي تداعى أمراء الطوائف إلى قمة طارئة لمناقشة الوضع في الأندلس. وكان صاحب المبادرة أمير اشبيلية (أقوى مقاطعات أمراء الطوائف) المعتمد بن عباد وتم الاتفاق فيها على الاستنجاد بأمير دولة المرابطين في المغرب. ومنذ تلك اللحظة، لحظة عبور قوات يوسف بن تاشفين جبل طارق في سنة 479 هجرية (1086م) دخلت الأندلس فترة تاريخية جديدة عاصر ابن باجه تحولاتها الانتقالية وتركت في حياته الأثر الكبير، وهو ما انعكس لاحقا في مقالاته وفلسفته.

جاءت انتصارات المرابطين على الفرنجة وإعادة توحيد الأندلس والمغرب في لحظة تاريخية قلقة، إذ كانت الخلافة العباسية تواجه أحرج الظروف وأخطرها حين نجحت الحملة الإفرنجية (الصليبية) الأولى في اقتحام سواحل الشام واحتلال مدنها البحرية والتقدم برا والاستيلاء على القدس وتأسيس إمارة لاتينية هناك في سنة 492 هجرية (1098م).

بسقوط القدس انتقل الاضطراب من المغرب إلى المشرق وباتت الخلافة بحاجة إلى دعم دولة المرابطين، التي تلكأت في تلبية نداء الاستغاثة، فانعكس الأمر سلبا على العلاقات في فترة لاحقة.

آنذاك استقر الوضع للأمير علي بن يوسف بعد رحيل والده يوسف بن تاشفين وبايعته قبائل المرابطين (لمتونة والصنهاجة والمصموديين) فتولى أخوه أبو الطاهر أمر مكناسة، وتولى يحيى بن أبي بكر أمر فاس، وتولى الأمير مزدلي تلمسان، وكانت اشبيلية في طاعة الأمير سير أبن أبي بكر، بينما لحق الأمير أبو بكر بن إبراهيم بغرناطة في سنة 500 هجرية (1106م).

بعدها قويت شوكتهم فأخذ الأمير علي يركز قواته للسيطرة على كل الأندلس فحشد جيوش المرابطين فبادر أهل الأندلس وقضاتها إلى طاعته، فولى أخاه أبا الطاهر تميم بن يوسف غرناطة، وولى أبا عبدالله محمد بن أبي بكر (اللمتوني) قرطبة، ثم ولى محمد بن الحاج فاس ثم نقله إلى بلنسية في سنة 503 هجرية (1109م). وقاد الأمير أبو الطاهر معارك ناجحة ضد الفرنجة عاد بعدها إلى غرناطة. وغزا الأمير علي بن يوسف مناطق الفرنجة في سنة 503 هجرية واسترد مدينة طلبيرة منهم (المراكشي، الجزء 4، ص 52).

ذكرنا سابقا أن المستعين بالله بن هود تولى إمارة سرقسطة في سنة 478 هجرية واستمر فيها إلى فترة مجيء قوات المرابطين واحتفظ بموقعه إلى أن قتل في موقعة مع الفرنجة جرت في سنة 503 هجرية فتولى مكانه ابنه عماد الدولة (أحمد بن أحمد المستعين بن المؤتمن بن أحمد المقتدر بن سليمان المستعين بالله بن هود الجذامي) فبايعه الناس في سرقسطة واشترطوا عليه عدم تقليد الفرنجة ومخالطتهم. فوافق ولم يف بوعده فعزم على مداخلتهم، كما يذكر المراكشي في تاريخه، فردّ أهل سرقسطة بالاتصال بوالي بلنسية الأمير محمد بن الحاج المعين من قبل أمير المرابطين علي بن يوسف. ودخل المرابطون سرقسطة وحصلت مواجهة مع الفرنجة سقط فيها الكثير من القتلى. استقر محمد بن الحاج (عامل المرابطين) في سرقسطة في سنة 504 هجرية (1110م) وهو في حرب سجال مع الفرنجة بسبب استغلالهم خصومات المسلمين وتعاون ابن المستعين معهم لمناوشة معاقل المرابطين (المراكشي، ص55). وبسبب حاجة المرابطين إلى تعزيز سلطتهم بالمثقفين على إثر تزعزع علاقات الأمير علي بن يوسف مع العلماء والفقهاء الموالين للخلافة العباسية، تقرب ابن باجه من السلطة وأخذ يدخل عالم السياسة من موقعه المهني كأستاذ وطبيب، فاتصل بوالي سرقسطة واختاره الأخير إلى جانبه كوزير من وزراء الولاية.

إلا أن صعود ابن باجه السياسي كان نقمة أكثر منه نعمة، إذ استغلت السلطة علومه لتصفية حساباتها مع العلماء والفقهاء في لحظة أخذ المغرب يشهد صعود «حركة الموحدين» التي تأثرت بفقه الإمام الغزالي (أبوحامد) وأفكاره.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2485 - الجمعة 26 يونيو 2009م الموافق 03 رجب 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً