قبل أيام، ألقى الفيلسوف الاشتراكي السلوفيني سلافوي جيجيك خطابًا «في الصميم» أمام متظاهري وول ستريت.
وخلال الخطاب، ذكر جيجيك طرفة أمام مستمعيه. قال فيها:»دعوني أخبركم بنكتة من العهود الشيوعية.أرسِلَ شابٌّ من ألمانيا ليعمل في صربيا. كان يعلم أن بريده يُمكن أن تقرأه الرقابة، لذلك قال لأصدقائه: فلنغيِّر الشيفرة، فإن وصَلَتكم رسالتي مكتوبة بالحبر الأزرق، فهي تعبِّر عن حقيقة ما أقول. وإن وصَلَتكم مكتوبة بالأحمر فهي زائفة. بعد شهر، تلقى أصدقاؤه الرسالة الأولى، وكانت كلها بالأزرق. قال في رسالته: كل شيء رائع هنا. المخازن ممتلئة بالأطعمة الجيّدة. ومسارح العرض تعرض أفلامًا جيدة من الغرب. الشقق واسعة وفخمة. الشيء الوحيد الذي ليس بإمكانك شراؤه هو الحبر الأحمر!».
كان سلافوي جيجيك يعني أنه (وبانتمائه إلى مجتمع رأسمالي) يفتقد «اللغة التي بها يعبِّر عن لا حريته» كما قال، لكن حريتنا نحن (المفقودة) في جزء كبير من العالَم العربي لا تعني ذلك فقط، بل تتعلق بطريقة اختيار الحياة الخاصة بنا. الشعوب لا تريد أن تكتب (فقط) أن هناك مشكلة تنمية يجب أن تصَحَّح، أو أن هناك فاسدين، وعن حاجتنا الملحة لتعليم ورعاية صحية أفضل. هم يريدون أن يقيموا تشاركًا حقيقيّاً في القرار. لماذا؟ لأنهم باختصار أحد مكوِّنات الدولة القائمة ذات السيادة وهي: شعب، أرض ونظام، وبالتالي، فإن ما ترومه هذه الشعوب هو أصلاً داخلٌ ضمن أجزاء الفضاء الطبيعي للأمور، وليس شيئًا شاذّاً أو دخيلاً.
الإشكال ليس في ذلك وحسب، وإنما في طريقة حَلِّه أيضًا. فالشعوب التي عادة ما تحكمها مشارب وانتماءات مختلفة، يجب أن يتمّ نقلها من حالة الانتماءات الفرعية إلى الانتماء الوطني الواحد والأوحد، وهو أمر لا يُقام بالكلام والتنظير فقط، وإنما يستقيم عوده من خلال النظام السياسي الرشيق الذي يقوم ويحكم. فتشييد نظام سياسي به مؤسسات دستوية حقيقية، وحقوق مواطنة متساوية، لا تغالب فيها ولا استقواء، يُهدّئ من مسألة استئثار فئة على أخرى، وبالتالي يخلق حالاً من التسليم من الجميع لتلك المؤسسة الناظمة، على اعتبار أنها ستكون نصيرة لجميع تلك الانتماءات، سواء أكانت هذه الطائفة في السلطة أم في الظل، أم حتى في الهوامش.
وبالتالي؛ فإن ذلك يأخذنا إلى إعادة النظر في آلية تقسيم السلطة بالطريقة التي نراها الآن. فالجزء الأكبر من الأنظمة العربية تقوم بتطعيم أنظمتها السياسية بآحاد من الناس ينتمون إلى قوميات وطوائف، ثم تقدم نفسها على أنها أنظمة راعية للجميع، وهنا المشكلة؛ لأن ذلك ما هو إلاَّ استحلاب مكشوف للشعار من دون تطبيق حقيقي لشعوره. فالقضية، هي أن تلك الأنظمة تقوم بتطريز أنظمتها بتلك الآحاد من الناس للدعاية والتسويق، لكن جوفها وجوهرها محكوم من أطراف أخرى، يكون لها وحدها ومن دون غيرها سلطة الاستيلاء على القرار المصيري، وعلى الثروة ليستمر الإشكال.
ماذا كان يفيد نظام الرئيس الراحل صدام حسين، عندما كان يعمل لديه طارق عزيز (المسيحي) ومحمد حمزة الزبيدي (الشيعي) وطه ياسين رمضان (الكردي) وعزَّت إبراهيم الدوري (السُّني)؟ فهل حوَّل ذلك نظامه إلى نظام ديمقراطي تعددي استظلَّ به الشعب العراقي كله؟ كلا؛ لأنه وباختصار، لم يكن كلّ المسيحيين طارق عزيز، ولم يكن كلّ الشيعة حمزة الزبيدي، ولا كلّ الأكراد طه ياسين رمضان، ولا كلّ السُّنة عزت إبراهيم الدوري، لأن الموضوع غير مرتبط بالتمثيل الحقيقي أبدًا، وإنما مرتبط بطريقة الولاء الشخصي للفرد الحاكم، وذلك الأمر لا يُسكِّن من هواجس الجميع، مهما عُمِل ومهما فُعِل. واليوم يسري الموضوع على الكثير من الأنظمة العربية.
أوروبا خير مثال على ما أقوله. فمن يقرأ تاريخ شعوب تلك القارة سيرى أنها من أكثر شعوب الأرض انقسامًا على مستوى الطوائف والإثنيات. فأوروبا هي التي شهدت انقسام المسيحية أكبر دين سماوي مُوَحِّد، فظهرت البروتستانتية اللوثرية والكاليفانية، وظهرت الأناباتيستية والشفنكفيلدية، وعلى المستوى القومي تداخلت الأعراق وتقاتلت، فظهر ليو شتراوس الأميركي من أصل ألماني، وظهر موللر ماكس الإنجليزي من أصل ألماني، بل إن جاك روسو نفسه كان سويسريًّا فرنسيًّا بروتستانتي المولد، كاثوليكي المنشأ، ثم بروتستانتي مرة أخرى. لكن كل تلك التقسيمات الدينية والقومية المعقدة، استطاع العقد السياسي والاجتماعي الأوروبي المتقدم أن يلجمها.
كانت التشاركية، والمواطنة هي الحل لكل ذلك التقسيم منذ العام 1848م في سويسرا على سبيل المثال، عندما اعتمِدَ الدستور الاتحادي للدولة السويسرية الحديثة، وهو الذي جعل 39 في المئة من السويسريين يؤمنون بوجود روح أو قدرة ما في الحياة، و48 في المئة منهم يؤمنون بإله دون الحاجة للحديث عن الكثلكة ولا غيرها، على رغم أنها (سويسرا) هي الأرض التي شهِدَت غالبية صراعات التقسيم الديني وحروبه الدامية. المواطنة والتشاركية السويسرية الصحيحة هي التي جعلت كانتونات الصراع القديمة فيها تقبل بأن تحكمهم ميشلين كالمي ري على رغم أنها من كانتون فالي، هذه هي القضية الرئيسية في كلّ ما يجري.
نأمل أن تلِد الثورات والحركات التصحيحية القائمة في العالَم العربي أنظمة سياسية أكثر رشاقة، تكون فيها مواطنة هذه الشعوب هي المعيار الأول، بهدف تشييد عقد اجتماعي يعالج ما عُولِجَ في أوروبا وفي أماكن كثيرة في أوروبا من مشاكل سياسية. فالجميع يريد لدولنا الخير، والرخاء والتقدم، وعدم الانزلاق في مشاكل سياسية لا تنتهي
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3360 - الجمعة 18 نوفمبر 2011م الموافق 22 ذي الحجة 1432هـ
وزراء مصر والمغرب
حسني مبارك ايضا كان لديه يوسف بطرس غالي وامثاله وفي المغرب كذلك كان هناك وزراء يهود لكن ما هي الفائدة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
منذ الاغريق
المشاركة في القرار ليس منة من عند احد بل هو حق مشروع للشعوب التي حكمت نفسها منذ الأغريق ولغاية اليوم
الظلم
الظلم اصبح دستور كما دستور الجامعه العربيه والولاء للحكومات ديدن المتمصلحين على حساب الاوطان والشعوب