العدد 3358 - الأربعاء 16 نوفمبر 2011م الموافق 20 ذي الحجة 1432هـ

هل تَعتَبِر القذافي مثقفاً؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الرائد عبدالسلام جلُّود. هو رفيق درب القذافي، ونائبه في مجلس قيادة الثورة، قبل أن يختلفا في الثمانينات. حديثاً، أجرت صحيفة «الحياة» اللندنية لقاءً مع جلود في خمس حلقات. سأله غسان شربل: هل تَعتَبِر القذافي مثقفًا؟ ردَّ جلُّود بـ نعم. انتهت إجابة الرجل، لكن لم ينتهِ تفسيرها. بالتأكيد، فإن إجابته، لم تكن حسنة منه للقذافي، وإنما جاءت في سياقها المحدد فقط، والمجتزأ، والمتعلق بمسائل هَوَس القذافي بالقومية، أو بإعجابه بثقافة عمر المحيشي.

فالرجل، قال إجاباته (عن القذافي) من منطلق خلافه الشخصي معه، لدرجة أنه لم يتعاطف معه حتى في لحظة اغتياله بتلك الصورة التي رأيناها، عندما علَّق لغسان شربل بالقول: «هذه نهاية كلّ طاغية». وربما كانت هذه مثلبة وحيدة في صداقة الرجليْن، بالإضافة إلى تبطَّل جلُّود في كثير من المواقف الخاصة بالسياسة الليبية، وتحديداً في شأن الإصلاحات الداخلية، وشئون العلاقة مع المنظمات الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان.

في كلّ الأحوال؛ فإن ما يهمني هنا، هو العودة إلى أمر السؤال والجواب عن «ثقافة القذافي». فمسألة الثقافة مرتبطة «طبيعيّاً» بإنتاج مسارات التفكير وخلق القيم. لكن تلك الطبيعة قد تنحرف، فتصبح الثقافة تابعة، أو مُسيَّرة ومُسخَّرة لآثام الضمير. كثيرون من زعامات العالَم كانوا مثقفين ومؤلفين حتى الزعيم النازي أدولف هتلر كان مثقفًا جدّاً.الدوتشة الفاشي الأول في إيطاليا ببينيتو موسوليني كان مُحرِّرًا لصحيفة «أفتاب» الإيطالية.

في الجهة الأخرى كان الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور شاعر القارة السمراء كلها. ورئيس الوزراء الفرنسي السابق دومنيك دوفيلبان كان شاعرًا ملهمًا أيضًا. جوناثان سويفت، ومكسيم غوركي، وجون لوك وأبراهام لنكولن كلهم كانوا فلاسفة وأدباء. وفي السابق كان غوتاما بوذا، مؤسس الديانة البوذية في العالم كذلك. وربما يستشعر أحدنا أن مسألة الثقافة ليست بالضرورة أن تكون حاكمة على الضمير بسماطيه الخيِّر والشرير، وإنما قد يظهر أن الأخير هو منْ يملك قرار الحكم والموقف في المعادلة.

القذافي قرأ عن الثورة الفرنسية وعن الثورة الصينية وعن الثورة الكوبية، وقرأ لساطع الحصري (كما كان يقول عنه جلُّود نفسه في اللقاء)، لكنه لم يكن يُدرك ما كان يقرأ. لم يستفد القذافي من تلك الثورات حتى في أكثر إخفاقاتها سوءًا. فلم يكن كماكسمليان روبيسبيير، ولا كماو تسي تونغ ولا كتشي جيفارا. فقد انتقل من ثوري ناصري طوباوي إلى زعيم رجعي ورَّث السلطة لأبنائه وقبيلته وذويه، جاعلاً منها مُلكًا عضوضًا، ليس فيه رائحة للثورية ولا للتحديث، ولا لأي مستوى من مستويات التمدين التي تقترن مع التغيير عادة.

أسوأ ما فعله القذافي خلال فترة حكمه، هو أنه اختصر الشعب الليبي في ذاته. واختصر التجارب الديمقراطية في المؤتمرات الشعبية التي نظَّر لها في كتابه الأخضر. فإذا كانت الشيوعية، التي أسَّس لها جهابذة الفكر الفلسفي ككارل ماركس وفريدريك أنجلز وأضرابهما، قد أعلنت فشلها على المستوييْن السياسي والفكري، فما بال القذافي رامَ بناء ليبيا من خلال قراطيس كَتَبَها ونمَّقَ من ألوانها وزيَّد من أعدادها ثم قدَّمها على أنها أمل الإنسانية في العدالة والحرية والديمقراطية؟! هذا أمر أقرب إلى الجنون منه إلى المنطق السَّوي.

في مسألة الاختصار الحاد تصبح الأشياء كلها فردية. تموت الجماعية والتشاركية لصالح الأنا. حينها تغيب المؤسسة ويحضر الفرد بكلّ غثه وسمينه، وقِصْر تفكيره. كل الدول التي ابتنت على تاريخ فردي أحادي انهارت وتهاوَت، لأن قدرة الفرد لا يُمكنها أن تحتمل أوزان الجماعة إلى ما لا نهاية. فالجزء محتاج إلى الكلّ وليس العكس في غالب الأحيان إن لم يكن في كلها.

لنقرأ التاريخ جيدًا. الأوروبيون استطاعوا تحطيم تلك الصَّنميَّة إلى أبعد حد. صحيح أنهم أسرفوا في مسائل الملكية الفكرية، إلاَّ أن إسرافهم كان في عمليات الإنتاج، ولكن على المستوى السياسي كانت لديهم قدرة على الانتصار لصالح المؤسسة، منذ أن بدأ عصر التنوير لديهم خلال ثلاثة القرون الماضية، سواء إبَّان الثورة الفرنسية أو الصناعية أو حتى في بقية الثورات التي ضربت سبعين مكانًا في عموم الأرض الأوروبية.

بإمكانك أن تسمع عن وليام لوفيت، وفيرغوس أوكونور في العام 1838م في بريطانيا، لكنك لا تستطيع أن تفصلهم عن حركة الميثاقيين المطالبة بالإصلاح السياسي حينها، لأنها أشمل منهم. وبإمكانك أن تسمع عن روبسبيير في فرنسا، لكنك لا تستطيع أن تقول إن اليعاقبة شيء وإن هذا الرجل شيء آخر، وكذلك الحال بالنسبة إلى للامتسروليين والجيرونديين.

ليس ذلك فحسب، بل إن الأمر انسحب أيضًا حتى على العلماء الطبيعيين، حين شملتهم الجمعيات القمرية، وكذلك الحال بالنسبة إلى انشطارات المسيحية ما بين بروتستانتية وكاليفانية وطهورية، والتي بدأت جميعها من حالة فردية، لكنها ما لبثت أن تحوَّلت نحو التشاركية والتعاضدية الجماعية. هذا الأمر هو الذي دفع بأوروبا إلى أن تتطور، وتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، من مستوى مرموق من الحكم والإدارة والحوكمة، وهو ما نحتاج إليه فعلاً.

اليوم، ما تحتاج إليه النظم المتكلِّسة هي أن تبتعد عن هذه الفردية، لأنها باختصار ليست النموذج الصالح للحكم، فهي وسيلة بالية أكلها الزمن، ولا يُمكن مقْيستها أبدًا على حاضرنا مهما قيل ومهما توسَّم البلهاء فيها خيرًا

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3358 - الأربعاء 16 نوفمبر 2011م الموافق 20 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:41 ص

      القراءة والجنون

      القذافي كان مثقفا بطريقة عكسية يعني كلما قرأ زاد لديه الجنون

    • زائر 4 | 1:58 ص

      جنون العظمه

      وهنا تكمن المشكله ان يتحول الزعيم الى اله له الحكم المطلق والمرض في شعوبنا وليس في الزعيم فهم من يشجعونه حتى يصدق نفسه انه اله واستغفر الله ولكم

    • زائر 3 | 1:42 ص

      لدي سؤال لسؤالك

      وهل يوجد بين المجانين مثقفون؟؟؟

    • زائر 2 | 1:13 ص

      هل تريد اجابتي؟

      مثقف طبل. بفتح الباء وليس كسرها.

    • زائر 1 | 12:31 ص

      سعدون حمادي

      هناك كتاب مهم جدا يتحدث عن الانسان والضمير لسعدون حمادي يمكن قراءته للفائدة رغم ان مؤلفه كان ينتمي لنظام غير ديمقراطي

اقرأ ايضاً