العدد 3358 - الأربعاء 16 نوفمبر 2011م الموافق 20 ذي الحجة 1432هـ

خاتمة العدل وسرّ الخلود

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في منفاه البيروتي نهاية القرن التاسع عشر، كان شيخ الأزهر الإمام الشيخ محمد عبده (ره)، قد ضربت له الأقدار موعداً مع «نهج البلاغة»، ليلتحق بقافلة شارحيه فيكتب اسمه في الخالدين.

كتب عن ذلك في المقدمة قائلاً: «فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفةً بلا تعمّل، أصبته على تغيّر حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسليةً، وحيلةً للتخلية». ولكن عندما غاص في صفحاته... «كان يخيّل لي في كل مقام أن حروباً شبّت، وغاراتٍ شُنّت، وأن للبلاغة دولةً، وللفصاحة صولة»... «فيه الترغيب والتنفير، والسياسات والجدليات، والحقوق وأصول المدنية وقواعد العدالة، والنصائح والمواعظ». وما كان يحسبه في البداية تسليةً، اكتشف انه كتاب علمٍ متدفق غزير.

من درر هذا الكتاب رسالة «مالك الاشتر»، حيث تنتهي بك التأملات عند المحطة الأخيرة، حيث يوصي الإمامُ مالكاً بتخصيص وقت للقاء ذوي الحاجات، يسمع منهم شكاواهم بعيداً عن الجند والأعوان. وينصحه بأن يجعل لنفسه مع الله أفضل المواقيت، وإقامة فرائضه، وألا يكونن في إقامة الصلاة منفّراً ولا مضيّعاً، ففي الناس من به علة أو له حاجة. ويأمره بألاّ يطيل احتجابه عن الناس، ففي الاحتجاب شعبةٌ من الضيق وقلة علم بالأمور، خصوصاً أن أكثر حاجاتهم رد مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

في هذه الوثيقة، يحذّر عليٌّ من أفراد الحاشية، ففيهم «استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة»، ويريد أن يحسم ذلك ببتر أسبابه: «ولا تقطعن لأحد من حاشيتك قطيعة»، فالنتيجة الحتمية الإضرار بالآخرين من أصحاب الحاجات والكفاءات، وما ستناله البطانة المرفهة من امتيازات، سيكون حتماً مقتَطَعاً من حقوق وأنصبة آخرين.

وصايا سياسية ينثرها عليٌّ في كتابه: «وإن ظنّت الرعية بك حيفاً فاصحر لهم بعذرك»، «ولا تدفن صلحاً دعاك إليه عدوك لله فيه رضى فإن في الصلح دعةً لجنودك وإراحة من همومك وأمناً لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن النية»، فخيار السلم لا يعني النوم. وعندما يلتزم بعهدٍ فعليه الوفاء، «فلا يجترئ على الله إلا جاهلٌ شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته... فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه».

في ثنايا الخطاب تذكيرٌ دائمٌ بنقمة الله، ومخاطبةٌ للضمير لإنعاشه، وتخويفٌ من عواقب السوء، يصل إلى منتهاه حين يحذّر الأشتر بشدةٍ من سفك الدماء: «فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة. فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام...». نصائح تهتز لها القلوب وتقشعر الجلود.

وتتوالى الوصايا الخاصة والعامة: «وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإطراء»، و»إياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعِدَهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المنّ يبطل الإحسان... والخُلْفُ يوجب المقت عند الله والناس». و»إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها»؛ و»املك حمية أنفك وسَوْرة حدّك وسطوة يدك وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار»؛ و»إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة... فإنه مأخوذٌ منك لغيرك وعمّا قليلٍ تنكشف عنك أغطية الأمور ويُنتصف منك للمظلوم».

في ختام هذه الوثيقة التاريخية يكتب علي لصاحبه: «وأسال الله بسعة رحمته وعظيم قدرته، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه... من حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد... وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة إنا إلى الله راغبون».

لقد أجاب الله دعوته، فنالا حسن ثناء الأجيال، وجميل الأثر في مختلف العصور، وختم الله لهما بالسعادة والخلود

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3358 - الأربعاء 16 نوفمبر 2011م الموافق 20 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 16 | 11:55 م

      ما جاع فقير الا بما متع به غني

      أمير البلاغة ما تطرق لشئ الا زانه فهو سلام الله عليه يشير الى أن المسئول خادم للرعية فعندما تكون الميزانية في يد وزير فهي ليست له ولكن مسئوليته أن يوزعها بحكمة وهذه من بديهيات العقل فهل يعقل عندما تكون عندك صلاحية أن تأخد كل أرض البلد أنت مسئول عليها لتوزيعها لا لآخدها لك سلام الله عليك يا أمير المؤمنين (( أن دنياكم هذه لاتساوي عندي عفطة عنز ألا ان أقيم حقاً وأدحظ باطلاً))
      فلنعد له ولانتأخر فعنده الحل لكل معضلة لمن يريد
      وكل ما تأخرنا زاد بلاء الشعوب المغلوب على أمرها

    • بريد الشوق | 8:07 ص

      أين ما نعيشه من هذه المواعظ ؟؟؟

      حذر الإمام علي عليه السلام من حرمة الدم و من الظلم و لكن هل من متعظ ؟؟؟ ليس هناك من يفكر في آخرته و كيف يرد عندما يسأل من رب العباد عن كل قطرة دم سفكت دون وجه حق و كذا الظلم عم و استشرى و ضاقت به البلاد و العباد فمتى يتعظ الظالم و يخاف الله يوم لا ينفعه إلا عمله ؟؟؟

    • زائر 14 | 2:59 ص

      هذا الامام علي (ع)

      المختصر المفيد - ماذا قال فيه رسول الله (ص)

      انا مدينة العلم وعلي بابها - فقد ورث الامام علي علمه من خاتم الانبياء والمرسلين واقوله حكم ومنفعة للناس ولكن الناس غافلين

    • زائر 13 | 2:29 ص

      رمز العدالة

      أمير المؤمنين عليه السلام هو رمز العدالة الإنسانية وأيضا شجاع وقائد وحكيم وحقوقي وأديب وبليغ. سياسي محنك لا يهزم ولكن مقولتين له توجزان أشياء كثيرة: لا راي لمن لا يطاع والكلمة الأخرى: وما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر.

      هناك كتاب آخر إسمه إتمام نهج البلاغة به الكثير من المراسلات والخطب والحكم.

      شكرا لك سيد على المقالات القيمة

    • زائر 12 | 2:03 ص

      لله درك يا ابا الحسنين

      كل يوم ازداد فخرا بأنني من شيعتك
      و احمد الله و اشكره على نعمة الولاية
      لا عذب الله أمي إنها شربت ـــ ـــ حب الوصي وغـذتـنيه بالبنِ
      وكان لي والد يهوى أبا حسنِ ـــ ـــ فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسنِ

      تسلم سيدنا على تذكيرنا باحد كنوز الثقافة الاسلامية "نهج البلاغة"

    • زائر 11 | 1:58 ص

      عيون عضت ابصارها عن نهج علي فتاهت وعيون قرأت بلا تمعن فما استفادت

      المسلمون انفسموا صنفان في علي قسم جهل قدره وحقه وباعه بأقل الأثمان فلم يعرفوا تراثه الثمين ولم يرأوا له ذرر ما ترك وبذلك حرموا أنفسهم من كنز كبير.
      وقسم آخر قرأ واطلع على فكر علي ع ولكنه لم يعطه الأهتمام الذي يستحق وربما يكون ذلك لأسباب لا مجال لذكرها وهذا القسم لم تتح له الفرصة او لم يتسنى له الوضع كي يجعل من تراق علي انموذج دراسي عال

    • زائر 9 | 1:11 ص

      شكرا لكم

      اين هم من الأمام علي ين ابي طالب عليه السلام

    • زائر 8 | 12:31 ص

      منهاج للحياة السياسية والحقوقية

      أعتقد ياسيد أن هذا الكتاب لوكان بيد الأجانب، لجعلوه منهجاً يدرس في كليات الحقوق والسياسة، بل أكثر من ذلك لجعلوه دستورا وميثاقا يلزمون حكامهم باتباعه.

    • زائر 7 | 12:27 ص

      نصائح تهتز لها القلوب وتقشعر الجلود

      «فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة. فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام...»

    • زائر 6 | 12:24 ص

      عجبي

      ولحد الان وبعد الاف السين لازال البعض ينسبون بعض اقواله وغزواته ومواقفه من اجل رفعة الاسلام الى الغير انهم يزورون التاريخ ولكن من يستطيع ان يخفي الشمس بمشخال

    • زائر 5 | 12:07 ص

      علي ابن ابي طالب ويكيبيديا

      اشتهر علي عند المسلمين بالفصاحة والحكمة، فينسب له الكثير من الأشعار والأقوال المأثورة. كما يُعدّ رمزاً للشجاعة والقوّة ويتّصف بالعدل والزُهد حسب الروايات الواردة في كتب الحديث والتاريخ. كما يُعتبر من أكبر علماء الدين في عصره علماً وفقهاً إنْ لم يكن أكبرهم على الإطلاق كما يعتقد الشيعة و الكثير السنة

    • زائر 4 | 12:05 ص

      سلمت يداك يا ابو حسين ولكن من يعتبر

      مقال غني وننتظر مقالاتك الساخرة بكل شوق

    • زائر 3 | 11:53 م

      ما أعضمه من عهد

      سيدي أنت تبسط درر ألعلم على ألقارعة فهل أشتري ألفحام درّا؟ ربما. بن صالح

    • زائر 2 | 11:06 م

      Early Reader

      Hi,
      I am sorry my keyboard does not support Arabic writing,anyhow i will write in English for the time being.
      Thanks for you, as a pperson , as a writer, as a Bahraini citizen. who really write to educate,explain, to enlight people, i like you personally as a real friend, as a writer, good look, and really feel that all Bahrainis are proud to have writers like you, to a level that you can smell thier love to Bahrain and only Bahrain.
      Thanks and best regards,
      Citizen.

    • زائر 1 | 10:24 م

      الظلم ظلمات

      وإياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله

اقرأ ايضاً