في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، قادت الدولة التي أطلقت شرارة الربيع العربي المنطقة من الثورة إلى تقرير المصير السياسي. ذهب ما يزيد على 90 في المئة من الناخبين التونسيين المؤهلين إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم للمجلس التأسيسي المكون من 217 مقعداً، وهي هيئة أنيطت بها مهمة صياغة دستور جديد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة. وعلى رغم أن عملية التصويت حصلت على مديح المجتمع الدولي، إلا أن نتيجة الانتخابات، وهي فوز حزب إسلامي بغالبية الأصوات، قد أقلقت بعض المراقبين الغربيين. هناك قلق من القوة المتنامية للحركات السياسية الإسلامية في تونس وأثرها على القضايا المحلية مثل حقوق الإنسان والمرأة.
إلا أن نتائج الانتخابات رسمت صورة أكثر تعقيداً، ويتوجب دراستها عن قرب حتى يتسنى فهم مسار الدولة بشكل حقيقي.
كان حزب النهضة، وهو الحزب الممنوع منذ فترة طويلة والذي يعتبر نفسه حزباً إسلامياً سياسياً معتدلاً، الكيان السياسي الأكثر تنظيماً، وقد حصل على 40 في المئة من الأصوات الانتخابية. لم يفز الحزب بعدد كافٍ من الأصوات ليحصل على النصاب الضروري للحفاظ على سيطرة كاملة على العملية الدستورية، أو ليشكّل حكومة دون شركاء متحالفين.
لم يشكل أداء حزب النهضة مفاجأة، ولكن الأداء الضعيف للحزب الذي ظن الكثيرون أنه سيكون أكبر حزب علماني هو الذي شكل مفاجأة. كان الحزب التقدمي الديمقراطي، وهو حزب من يسار الوسط قائماً منذ فترة طويلة، قد طرح نفسه كبديل لحزب النهضة، ولكنه لم يحصل إلا على 5 في المئة فقط من الأصوات، الأمر الذي ترك الكثيرين يتساءلون ما إذا كان أداؤه السيئ مؤشراً على شعب فُرِضَت عليه العلمانية لفترة طويلة فأخذ يتوجه لهوية أكثر تديناً. قد لا يكون هذا هو الحال لأنه بشكل إجمالي حصلت الأحزاب العلمانية على نحو 50 في المئة من الأصوات الانتخابية، ما ترك المجلس التأسيسي منقسماً بشكل متساوٍ تقريباً بين العلمانيين والإسلاميين.
يبدو من المحتمل بدلاً من ذلك أن الحزب التقدمي الديمقراطي حصل على دعم شعبي محدود في الصناديق الانتخابية لسببين رئيسيين: أنه فشل في صياغة رسالة إيجابية، وأن القاعدة الانتخابية التي استهدفها كانت مقسمة بين عدد من الأحزاب. ركز البرنامج الانتخابي للحزب التقدمي الديمقراطي بشكل رئيسي على مجابهة القوى الإسلامية، ولم يقدم أجندة قوية. على سبيل المثال، وأثناء الإعداد للانتخابات، ادّعى وبشكل متكرر وجود أجندة أكثر تطرفاً وراء مواقف حزب النهضة المعتدلة. إضافة إلى ذلك، عانى الحزب التقدمي الديمقراطي عندما قام القطب الديمقراطي المعتدل، وهو تحالف للجماعات اليسارية، بصياغة رسالة علمانية أكثر قوة في مجابهة حزب النهضة.
ومع انتهاء الانتخابات، عبّر حزب النهضة عن استعداده لتشكيل حكومة وحدة وطنية. وهناك مؤشرات قوية على أن كلاً من التكتل، وهو حزب علماني وسطي يساري حصل على حصة جيدة من الأصوات، وحزب مجلس الجمهورية، الذي جاء بالمرتبة الثانية بمجموع أصوات بلغ 17 في المئة، سينضمان إلى التحالف، الأمر الذي يضمن حكومة معتدلة.
أوضحت هذه النتائج للمجلس التأسيسي أن الشعب التونسي يشعر أن دور حقوق الإنسان في الدستور لا يمكن تجاهله بغض النظر عن التوجه الديني.
وعلى رغم أن الكثيرين في الغرب قد يسعون لاحتمالات بديلة لحكومة التحالف، مع انضمام مجلس الجمهورية والتكتل إلى المعارضة مع الحزب التقدمي الديمقراطي، إلا أن ذلك بعيد الاحتمال، ولن يتم القبول به كثيراً في الشارع التونسي. ولأن المجلس التأسيسي يُنظر إليه على أنه راعٍ للدستور الجديد، هناك شعور واسع بين التونسيين بأنه يجب ألا يكون هناك صوت واحد مسيطر، وإنما تمثيل واسع لوجهات النظر.
وإذا أخذنا بالاعتبار أن الانتخابات في تونس أنتجت حكماً سياسياً منقسماً بشكل متساوٍ بين الأحزاب العلمانية والإسلامية المعتدلة، الأمر الذي يشكّل كابحاً طبيعياً في النظام، فإن ذلك يكفي لتهدئة روع المرتعب.
وعلى رغم بعض القضايا المحتملة المحيطة بالانقسام الداخلي بين الإسلاميين والعلمانيين، اتخذت تونس حتى الآن الخطوات الصحيحة في الاتجاه الصحيح. وكما هو الحال بالنسبة للثورة، سيشكّل تحولها السياسي ورقة اختبار للمنطقة، وستشكل النجاحات المبكرة أو الفشل المبكر في العملية الديمقراطية الجديدة مؤشراً لكل من مصر وليبيا. ويقف المجتمع الدولي في مكان ممتاز لتوجيه نجاح الديمقراطية التونسية وحقوق الإنسان من خلال الاستمرار في تركيز الجهود على توجيه الدولة قدماً من حيث التنمية الاقتصادية وترك التونسيين لتعريف وتحديد هويتهم السياسية الداخلية
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 3356 - الإثنين 14 نوفمبر 2011م الموافق 18 ذي الحجة 1432هـ