طرَحَ رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي، مبادرة إقليمية رباعيّة أطرافها: المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بالإضافة إلى الجمهورية التركية والجمهورية العراقية، الهدف منها، هو لقاء زعماء هذه الدول، بغرض التباحث لحل قضايا الإقليم، نظرًا لما تعانيه المنطقة من متاعب الاستقطاب السياسي، والتنافس على ساحات الغير.
هذه الدول المشار إليها، هي معنية بالمبادرة موضوعيًا. فالعراق والسعودية يتجاوران في الشمال بـ 814 كم، وهو ثاني أطول الحدود السعودية مع الجوار، ويبدأ من منفذ الرقعي شرقًا إلى مدينة طريف غربًا. وهي أيضًا جارة لإيران عبر الخليج بـ 1200 كم. وإيران تتجاور مع العراق بـ 1400 كم من بادية حدوده الشرقية إلى شماله الكردي. والعراق يتجاور مع تركيا بـ 58 كم في أكثر المناطق سخونة والتهاباً. وبهذا تكتمل صورة الجغرافيا تمامًا بين هذه الدول.
في السياسة، فإن الدول الأربع تجتمع وتختلف على أغلب السياسات الإقليمية القائمة، باشتراك شبه عضوي. إيران نافذة في العراق بقوة، والسعودية خلاف ذلك. لكن الرياض نافذة في دول الخليج بشكل كبير لكن إيران ليس بذلك الحجم. وكلا الدولتين تحتاجان لبعضهما لسد الفراغ (الإيراني/ السعودي) في المناطق الرمادية للطرفين. تركيا، تشترك مع إيران في قتال حزب العمال الكردستاني المطالِب بالانفصال. وهي أيضًا تحتاج إلى دور المملكة العربية السعودية، لدواع تتعلق بالعمق داخل تخوم العالم الإسلامي.
في الاقتصاد، فإن العراق هو في حقيقته طلْقٌ للسوق الإيرانية. بل حتى الكتب الدراسية صارت تطبع داخل إيران، فضلاً عن المبادلات التجارية في مجال السلع الاستهلاكية، والمواد الصناعية، ومن المؤمل أن يصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 20 مليار دولار. إيران تبيع الغاز المسال والنفط إلى أوروبا الغربية والوسطى عبر الأراضي التركية. بالإضافة إلى موضوع البنوك التركية، التي حلَّت محل الكثير من البنوك الأوروبية بعد فرض العقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي.
أما السعودية، فإن مبادلاتها التجارية مع تركيا، وصلت إلى 5 مليارات دولار، وهي تسعى إلى رفعها إلى 10 مليارات دولار، مع وجود أكثر من 200 شركة سعودية تعمل في الأراضي التركية كما قال بذلك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. أما إيران والسعودية، فالعلاقة الثنائية تمتد من أوبك، ولا تنتهي إلى مسائل الغاز، التي تمتلك إيران (بالإضافة إلى روسيا وقطر) 70 في المئة من مخزونه العالمي.
هذه الدواعي الموضوعية والسياسية والاقتصادية، أصبحت حجر الزاوية بالنسبة لجميع دول العالم. فدول الاتحاد الأوروبي ما كانت لتتحد لولا وجود مثل تلك الأسباب، وبالتالي فإن الأمر ذاته ينسحب على الدول الرباعية المعنية بالمبادرة التي طرحها النجيفي، وهو ما يعني وجود هذه الأرضية الصلبة، التي تدفع بتنمية العلاقات بينها، وترسيخ السلم الإقليمي بينهم.
القضية ليست فقط في مسألة المصالح، وإنما القضية مرتبطة بعلاقة هذا الوعاء البشري الهائل الذي يضم 211 مليون إنسان مع بعضه البعض. هذا الموزاييك البشري المتنوع في إثنياته ومذاهبه وأديانه، والمتحد في مصيره المشترك، يحتاج إلى أن يهجع ويستريح من حالة الاستقطاب القائمة. فهذه الدول هي بالأساس قائمة له، وتخدمه، وبالتالي، لا يُمكن الزَّج به في أتون صراع دول ليس له ناقة فيه ولا جَمَل.
ليس هناك أبعد من الأوروبيين عن بعضهم في السابق. فالحروب الدينية التي استمرت قرنين من الزمان، ثم الثورات، والثورات المضادة، ثم الدخول في حروب استمرت أكثر من سبعين سنة، على الهوية والقومية والانتماء والدين، ثم الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية التي أكلت عشرات الملايين من البشر لم تمنع من قيام تفاهم بينها، وصل إلى حدِّ الاتحاد اليوم. وربما لو عاد أحد من كانتونات سويسرا في زيورخ أو غيرها، أو الأراضي الواطئة في هولندا، لما صدَّق ما يراه اليوم بين هذه الدول، نتيجة ما كان بين هؤلاء من تذابح أسال الدَّم إلى الرّكب.
فإذا كان الأوروبيين وهم بذلك التاريخ السيئ، قد تقاربوا وتفاهموا في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فكيف بهذه الدول التي لا تفصلها جغرافيا عن بعضها أبدًا. كما أنها تشترك في دين واحد، وبلغة تكاد تكون واحدة باستثناء الأتراك، وبإطار ثقافي، يجمعه الشرق وعاداته وأصله التاريخي. إنها أكثر من أسباب وجيهة، لأن تتم تلك المبادرة وعلى أكمل وجه وأكبر تفاهم ممكن.
بالتأكيد، فإن تقارب هذه الدول الأربع سيعني الكثير للمنطقة وشعوبها. فالاستقرار سيشهده لبنان نتيجة تفاهم إيراني سعودي. والاستقرار ستشهده سورية نتيجة تفاهم تركي إيراني. والاستقرار سيشهده العراق نتيجة تفاهم إيراني سعودي أميركي. كما سينعكس ذلك أيضًا على الملف الفلسطيني، واليمن، واستقرار منطقة الخليج العربي.
وربما هي دعوة توجَّه إلى أسامة النجيفي، عرَّاب المبادرة، من أن طرحها لا يكفي بقدر ما يكون الاستغراق فيها هو الأهم. لأن الجفاء بين هذه الدول، لا يحتاج إلى مبادرات تحركها علاقات عامة، بقدر ما تحتاج إلى صناعة سياسية دؤوبة تكون قادرة على بلورة الأشياء كما يجب. وهو ما نأمله من رئيس مجلس النواب العراقي، ونأمله من هذه الدول، لأن تبدأ فعلاً في لقاءات عاجلة، تتناسب وحاجة هذا الإقليم لتسوية أموره وبأسرع ما يمكن. وكما قال المؤلف المسرحي اليوناني القديم أريستوفان «الأفكار العليا لابد لها من لغة عليا»
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3355 - الأحد 13 نوفمبر 2011م الموافق 17 ذي الحجة 1432هـ
الخلاصة
فإذا كان الأوروبيين وهم بذلك التاريخ السيئ، قد تقاربوا وتفاهموا في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فكيف بهذه الدول التي لا تفصلها جغرافيا عن بعضها أبدًا