إن ما يبعث على الدهشة والاستغراب، أن يضيع الإخوة الفلسطينيون أوقاتهم وجهودهم مع طرق أبواب مجلس الأمن لاستصدار قرار يعترف لهم بدولة، وهو عمل لا طائل من ورائه، ولا يضيف لهم أي أمر جديد يمكن أن يساند كفاحهم التحرري، حيث إن دولتهم قائمة ومعترف بها دولياً بموجب قرار التقسيم الصادر في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، وتستند على شرعية لا يزعزعها ولا يهزها تهديد أميركا باستعمال حق النقض ضدها، ولا أميركا بقادرة على نقض الشرعية التي تقوم عليها الدولة الفلسطينية، أما إذا ما سلمنا بأن بإمكانها أن تنقضه بعد مرور ما يقرب من 64 عاماً على إقراره من قبل أعضاء مجلس الأمن، فإن هذا النقض سيكون تاماً وشاملاً، وعندها ستفقد «إسرائيل» شرعية قيامها، وستعود القضية الفلسطينية برمتها إلى مربعها الأول، أي، ستعود لأصحابها الفلسطينيين الشرعيين، في مرحلة تاريخية يشهد العالم في ظلها تحولات، قد تكون خارجةً عن قدرة أميركا على احتوائها في وقت ترنحها الاقتصادي، وانشغالها مع ترقيع النظام الرأسمالي المترنح.
وعلى رغم الرفض العربي الفلسطيني المشترك لقرار التقسيم، فإن هذا الرفض لم يؤثر على قرار التقسيم في قليل أو كثير ولم يلغه كأساس تستمد منه الدولتان الفلسطينية والإسرائيلية شرعية وجودهما، غير أن ما يلزم الانتباه له هو ضرورة أن يحرر الإخوة الفلسطينيون إرادتهم، ويمتنعوا عن الانجرار وراء أميركا، وتصديق ما تدعيه كذباً وخداعاً وتضليلاً من أن محادثات السلام مع «إسرائيل» هي الطريق الوحيد الذي سيؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية، وتتجاهل عن عمد الحقيقة الساطعة التي لا يمكنها القفز عليها، مهما برعت في ممارسة الخداع وتفننت في أساليب المراوغة والدوران. فالحقيقة تدل أن الدولة الفلسطينية قائمة ومسنودة بشرعية، أمنها أرسخ وأثبت وأقوى بما لا يقاس ولا يقارن بالشرعية الهزيلة الملفقة التي قامت عليها دولة «إسرائيل» ألمجمعة من مختلف شذاذ الآفاق بالمعمورة. وليس بالأمر المستعصي على أي باحث أن يميز الفارق بين الشرعية التي تسند قيام الدولة الفلسطينية، والشرعية المتهالكة التي تسند دولة الكيان الصهيوني، من حيث ارتباط الشرعية الفلسطينية بأرضية الواقع الطبيعي، الذي جاء قرار التقسيم الصادر في 25 نوفمبر 1947 ليقسم أرض دولة فلسطينية عربية، تضرب جذورها في أعماق التاريخ، ويحسب عمقها الزمني بوحدات من القرون، فهي لذاك سبقت وجود «إسرائيل» بمثلما سبق جذورها الأوائل من القبائل التي تناسلت منها الدولة الفلسطينية، من السكان الكنعانيين، التي سبقت الديانات، أليس هذا بكاف لأن يتوج هام الدولة الفلسطينية بالسبق التاريخي في الوجود ويردها بشرعية تنكشف أمامها شرعية الكيان الصهيوني، الذي قام على مفهوم «أرض الميعاد».
وحقيقة هذا الوعد والحيثيات التي أحاطت بهذا الوعد المهزلة، أن إبرام كان يحمل في عقله فكرة عقائدية تتناقض تناقضاً جذرياً مع عقيدة قومه التي عابها عليهم، والمتمثلة في عبادة الأصنام، حتى بلغ به الاشمئزاز حداً قرّر معه، كما يخبر القرآن الكريم، الإقدام على تكسير هذه الأصنام، ولربما اعتزل قومه بعد ذلك. وفي ذات يوم بينما كان يسير وحيداً برز أمامه رجل طاعن في السن، فاستوقف إبرام وقال له: «إني إلهك وإله آبائك وأجدادك...»، و «اخرج من أهلك ووطنك إلى الأرض التي سأريك إياها»، غير أن الإله ضل الطريق واختفى عن إبراهيم الذي بقي وزوجته ساراي ولوط ابن أخيه، وظلوا هائمين على وجوههم حتى وصلوا منطقة على الحدود التركية. ومن هناك درس الطريق إلى الأراضي الكنعانية حيث شد الرحال إليها حيث ظهر له الرب ثانية، وقال له: «انظر إلى موقع قدميك ومدّ بصرك إلى مداه أمامك ومن جنبيك فكل ما تراه من أرض أعطيك إياها ولنسلك من بعدك، بشرط أن تتخذوني إلهاً وحيداً لكم تعبدوني وألا تشركوا معي أي إله آخر».
ولنا أخيراً كلمة نوجهها إلى أحبائنا الفلسطينيين، مفادها أنه لا يمكنهم مواجهة دولة إسرائيل إلا بدولة فلسطين، وهذا ما تتحاشاه أميركا، ولهم الخيار بين أن يذيبوا كياناتهم المجزأة في كيان واحد اسمه دولة فلسطين، أو أن يبقوا مجزئين تنفذ معهم أميركا جرائمها ومؤامراتها، وتبقيهم يعيشون على أوهام دولة لا ينعكس لها ظل على أرض، بينما «إسرائيل» تنفذ مخططها بمساعدة أميركا لابتلاع كامل الأرض الفلسطينية
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 3354 - السبت 12 نوفمبر 2011م الموافق 16 ذي الحجة 1432هـ