أن أعرف جواب هذه المسألة ثم أموت، أفضل من أن أموت وأنا جاهل بها!
هكذا أجاب الفيلسوف والعالم الرياضي أبوريحان البيروني عن سؤال أحد الفقهاء الذين حضروا لعيادته وهو على فراش الموت يعيش لحظات عمره الأخيرة، عندما أثيرت مسألة فقهية على رغم وضع البيروني الصحي المتدهور، وإذا بالفقيه يقول متعجباً: وهل هذا وقت للسؤال والبحث العلمي؟!
حق الفرد في الحياة حق أصيل من حقوق الإنسان، ولكن كيف يحيى؟
في التصور الأخلاقي، فإن الناس يقسمون على أربعة أصناف: حي ومحيي، وميت ومميت. وبهذا المعنى يكون بمقدور الإنسان أن يبحث عن حقه في الحياة، وإنسانيته كإنسان عندما يكون حياً ومحيياً في الوقت ذاته، فقد ورد في الحديث الشريف: خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه.
واقع الأمر فإن مفهوم (التعلم مدى الحياة Lifelong learning) ارتبط بقيم ومفاهيم إنسانية عليا، وبفلسفة مفادها أن بإمكان الفرد أن يكون عنصراً إيجابياً وفاعلاً على امتداد الحياة وعرضها، من خلال سعيه الدؤوب لاكتساب المعرفة وتوظيفها بدافع ذاتي، لأسباب شخصية أو مهنية.
ما يميِّز هذا النوع من التعلم عن المفاهيم التربوية الأخرى مثل (تعليم الكبار) ـ الذي سيأتي ذكره لاحقاً ـ هو كونه عملية ديناميكية مستمرة منفتحة على المبادرات والجهود الرسمية وغير الرسمية في سبيل تحقيق أكبر قدر ممكن من التكيّف أو التطوير المستمر في جميع الأماكن والأوقات، وتبدأ هذه العملية مع الطفل منذ لحظة الولادة والرعاية الأسرية ثم المدرسة والمجتمعات المحلية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وأماكن العمل وما إلى ذلك.
في الدول المتقدمة، توضع السياسات والاستراتيجيات التعليمية لتكون أداة للتغيير والتنمية الاجتماعية، ولتسير في خط موازٍ لعدد من المفاهيم العالمية، مثل حقوق الإنسان والممارسات الديمقراطية وحق المشاركة ووضع المرأة والطفولة وتكافؤ الفرص وغير ذلك.
وحتى عند صياغة البرامج التعليمية، تجدهم يأخذون في الاعتبار مسألة التدريب في موقع العمل (أي داخل مؤسسات الإنتاج كما كان معمولاً به قديماً على سبيل المثال في شركة نفط البحرين (بابكو)، عندما كانت تشجع موظفيها الذكور على تعلم القراءة والكتابة، والقضاء على الأمية الأبجدية آنذاك)، لأن التعليم الذي يتحقق عبر الممارسة يخلق فرداً متعلماً وذا فاعلية وإنتاج أكبر، وعلى هذا الأساس تلتزم جميع مؤسسات الإنتاج في الدول المتقدمة بتوفير هيكل تنظيمي مخصص لإنجاز عمليات التدريب في مواقع العمل لكل متعلم، ولا غرابة في الأمر عندما ترسم الدول الصناعية لنفسها هدفاً كبيراً «التعليم العالي للجميع».
على مستوى البحرين، فنحن لا نريد لتعليم الكبار أن يكون مقتصراً على مجتمع المعلمين أو وزارة التربية والتعليم أو جهات رسمية هنا وهناك، بل نتطلع لإشراك مؤسسات ذات صلة بالعملية التنموية كمؤسسات المجتمع المدني، فعندما نقرأ تاريخ التعليم في البحرين نجد أن برامج محو الأمية وتعليم الكبار هي التي أسهمت في انتشار التعليم بشكل واسع في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي عندما فتحت فصولاً دراسية لمحو أمية النساء، كما نجد هذا الوعي حاضراً في عقل المرأة البحرينية تحديداً، ففي الستينيات لعبت الجمعيات النسائية دوراً ريادياً في فتح فصول دراسية لمحو الأمية وتعليم الكبار بمقراتها، وإطلاق برامج التوعية الصحية والأسرية لتأهيل خريجات محو الأمية لمواصلة الدراسة الثانوية، وهذا بحد ذاته إنجاز نفتخر فيه نحن كبحرينيين، ويؤكد جدوى هذه الشراكة التعليمية التي نطالب بها.
ربما نحتاج إلى بعض المراجعات على مستوى غربلة النصوص والتشريعات، لتواكب التوجهات العالمية في تحمل أطراف أخرى هذه المسئولية الوطنية، نقصد بذلك على وجه التحديد المادة (9) من قانون رقم (27) لسنة 2005 بشأن التعليم، والتي تنص على أن «محو الأمية وتعليم الكبار مسئولية وطنية هدفها رفع مستوى المواطنين ثقافياً واجتماعياً ومهنياً، وتتولى الوزارة ـ التربية والتعليم ـ تنفيذ الخطط اللازمة للقضاء على الأمية».
يشير تقرير التعليم للجميع الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في العام 2010 إلى انخفاض ملحوظ في نسبة الأمية في البحرين إلى نسبة 2.46 في المئة وهو أمر نعتز به، كما تم إدخال التعليم الإلكتروني في مراكز محو الأمية، وذلك امتداداً لمشروع جلالة الملك حمد لمدارس المستقبل لردم الفجوة الناجمة عن الأمية الرقمية بين الدارسين من الأميين والكبار لضمان انتظامهم في الدراسة وعدم التسرب أو العزوف، ومنح الناجحين من المرحلة الإعدادية للالتحاق بدورات التعليم المستمر في مختلف المجالات وتشجيع أنشطة التربية الرياضية للجنسين من الدارسين، وتكريم الدارسين ممن واصلوا تعليمهم إلى المرحلة الجامعية وتشجيع الأكبر منهم سناً في عيد العلم، وتوفير المواصلات لهم.
لسنا قلقين في البحرين من التحديات التي تواجه قطاع تعليم الكبار مثل الفجوة بين الأمية الأبجدية والأمية الرقمية كما في بعض الدول، ولكننا معنيون حتماً بأدبيات الألفية الجديدة التي تنص على أن يكون التعليم عالمياً بدلاً من الطابع المحلي، لأن هذه الموجة العالمية آخذة في النمو وقادمة لا محالة، وعليه فقد أدركت بعض الدول العربية أخيرا ـ ومنها البحرين ـ هذا التوجه، وصرفت الملايين لإنشاء هيئات مستقلة لضمان جودة التعليم والتدريب، والاستعانة ببيوت الخبرة العالمية في مجال تطوير الأنظمة التعليمية لتتلاءم مع المعايير الدولية.
إن حق الفرد في التعلم مدى الحياة يمثل رؤية وحقاً مقدساً من حقوق الإنسان، لأن المتعلم بهذا المعنى يعيش حالة من الصراع من أجل النجاة والبقاء حياً على وجه هذه الأرض. قال الإمام علي (ع): الناس ثلاثة «فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع»
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3354 - السبت 12 نوفمبر 2011م الموافق 16 ذي الحجة 1432هـ