كنتُ جالسا أعد لمحاضرة سألقيها في برلين، ضمن تجمع ثقافي، حول الثقافة العربية، عندما جاءني أحد المثقفين الألمان وقال لي بأن هناك خطأ في الكُتيّب الذي أعددناه لتلك المناسبة، وهو أننا استخدمنا كلمة (فيوهرر Führer) الألمانية والتي تعني (القائد)، فاستغربتُ وسألته عن المشكلة، فقال بأن هذه الكلمة كان يُلقب بها هتلر، ومنذ سقوط النازية توقف الألمان عن استخدامها حتى ينسوا تلك الحقبة السوداء من تاريخهم. فسألته: «وهل نسوها؟» فضحك وقال: «إلغاء الكلمة لا يعني إلغاء التاريخ، فلقد عاد البعض لاستخدامها من جديد».
وقال لي صديق، وهو شاعر ألماني، بأنه لا يمكن لشخص أن يمر بالقرب من نصب محرقة الهولوكوست في برلين، وهي مقبرة كبيرة، دون أن يخالجه شعور بالتعاطف مع اليهود، حتى وإن كان ذلك الشعور مزيفا، فالتوبيخ الإعلامي والسياسي والإهانات التي لحقت بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية من اليهود والإسرائيليين قد شكلت عقدة نفسية لدى الألماني، الذي لا ذنب له في جرائم أجداده، تجاه كل يهودي حتى وإن لم يكن أحد أهله من ضحايا تلك الواقعة. ويستطرد صديقي في حديثه فيقول بأن الألماني كان ينهزم كلما مر بتلك المقبرة الرمزية، حيث كانت ألمانيا تتجرّد من ديمقراطيتها عندما يتعلق الأمر باليهود - على حد وصفه - وكان يمكن للألماني أن يُشكك في وجود إله، وفي شاعرية غوته، وفي فلسفة هيغل، ولكنه لم يكن قادرا على التشكيك في محرقة الهولوكوست.
وعلى رغم ذلك إلا أن الألمان تعاملوا مع هذا الإجحاف العالمي تجاههم بذكاء فريد، حيث اعترفوا بجرائم النازية، وقدموا اعتذاراتهم، ودفعوا تعويضات كبيرة، حتى لا يَدَعوا للعالم حجة عليهم، ولكي يتفرغوا لبناء أمتهم الجديدة. لقد تغلب الألمان على انكساراتهم الداخلية بسرعة، ولم يشكّل تاريخهم عبئا نفسيا واجتماعيا على الدولة والمجتمع إلا لمرحلة قصيرة، وبذلك استطاع الألماني أن يرمي آلامه خلفه ويحمل آماله على كتفه.
وقبل أيام كتب أحد أصدقائي (ليس عربيا أو مسلما) في تغريدة على تويتر: «عيدكم مبارك» باللغة الإنجليزية، فانهال عليه الناس من كل حدب وصوب يلومونه على استخدام كلمة «مبارك» حيث قالوا له بأن العرب قد توقفوا عن استخدام هذه الكلمة منذ سقوط حسني مبارك، وأنه من غير اللائق أن يستخدمها أحد بعد اليوم، وتم استبدالها بجملة «عيد سعيد». بدا الرجل منزعجا من النقد الذي أتاه، فقلتُ له بأن من قال ذلك يعاني من حساسية مفرطة؛ فمبارك هي كلمة أصيلة في اللغة العربية، ومن السطحية أن نربطها بشخص أيا كان، ثم نحاول إسقاطها من لغتنا لمجرد كرهنا لذلك الشخص. نعم، لقد كان حسني مبارك دكتاتورا ودمر بلده، ولكن سعي البعض لإلغاء كلمة مبارك من الأدبيات العربية يعطيه زخما لا يستحقه، ويكرس الانهزامية الحضارية التي يزرعها أعداؤنا فينا حتى وهم ميتون أو في داخل عنابر السجون!
إن الهجوم الكاسح الذي انهال على صديقي في تويتر يشير إلى أن رعب مبارك مازال يسكن كثيرا من المصريين، وقد يأتي يوم ينزل فيه بضعة ملايين إلى ميدان التحرير ليطالبوا مجمع اللغة العربية بإلغاء كلمة مبارك من قاموس اللغة العربية.
ذكرتني هذه الواقعة بفيلم (هاري بوتر) حيث يُمنع أي شخص في أكاديمية السحر من التلفظ باسم (فولديمور) الملقب بـ سيد الظلام، وعلى من أراد الحديث عنه أن يقول «الشخص الذي لا يجب نطق اسمه» حتى صار أسطورة لا يمكن لأحد أن يتغلب عليها سوى هاري بوتر.
إن الاستلاب الحضاري تجاه قضية تاريخية يعزز من أثر تلك القضية في عقول الناس، ويضخم الحقب المظلمة من تاريخهم في إنتاجاتهم الأدبية والفكرية، وأحيانا يكون رفض الشيء هو خوف منه وليس بغضا له، وعندما يسيطر علينا كره شيء أو شخص ما، فإنه يتحول إلى هاجس نفسي، وعقدة اجتماعية يصعب التخلص منها.
إن من يسكنه الماضي لن يستطيع أن يفهم المستقبل، ومن يعجز عن تجاوز انكساراته التاريخية فإن حديثه عنها لن يساعده في تضميدها، ولو توقف المصريون عن استخدام كلمة مبارك فإن مبارك سيكون قد انتصر عليهم من داخل زنزانته، وسيضطرون، دون أن يشعروا، إلى إلغاء كل شيء، دون التمييز بين الصالح والطالح، لمجرد أنه كان في عهده، وسيتحول مبارك إلى أسطورة إرهابية مثل أسامة بن لادن، الذي كان مجرد ذكر اسمه يثير قلق المكان ويستدرج انتباه من فيه، بينما كان هو يسكن بيتا مهترئا في باكستان. هناك شعوب تصالحوا مع الماضي ورموا تركاته الثقيلة وراء ظهورهم حتى يستعدوا للمستقبل، كما فعلت اليابان وألمانيا، وهناك شعوب مازالت مسكونة إما بانتصارات الماضي أو بانكساراته، فتمجّد رموزه أو تلعنها، وفي كلتا الحالتين فإنها تعيش سذاجة اجتماعية مدمّرة. يقول مايكل كورليوني في فيلم العراب: «لا تكره عدوّك، فإن ذلك سيؤثر على قراراتك»
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3353 - الجمعة 11 نوفمبر 2011م الموافق 15 ذي الحجة 1432هـ
^^
ويمكن إسقاط المقال كله على مقياس الإنسان الواحد \\ ماضيه و انكسـاراته !