مرة أخرى، وبتزامن مع ذكرى وعد بلفور المشئوم، ومع عيد الحج الأكبر، حققت السلطة الفلسطينية انتصاراً سياسيّاً جديداً، في مواجهة الغطرسة العنصرية «الإسرائيلية». فبعد مطالبة الأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنحها العضوية الكاملة في المنظمة الدولية؛ وافق أعضاء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO)، بعد التصويت بالغالبية، خلال مؤتمرها العام الذي عقد في باريس الأسبوع الماضي، على منح السلطة الفلسطينية العضوية الكاملة في هذه المنظمة، بما يمنح مشروعية دولية أخرى للدولة الفلسطينية المستقلة المرتقبة، ويسهم في تمكين السلطة من تحقيق اختراقات أخرى.
ردة فعل الإدارة الأميركية تجاه قبول فلسطين عضواً كاملاً في «اليونيسكو»جاءت حادة وعنيفة بلغت حد إبلاغ مقر المنظمة بقطع التمويل المالي عنها احتجاجاً على ذلك. وكانت الذرائع والحجج واهية ومكرّسة للموقف الأميركي المعارض لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
فقد أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، أن منح العضوية الفلسطينية في «اليونيسكو» «سابقة لأوانها»، وأنه التفاف على عملية السلام التي بدأت قبل عشرين عاماً. ولا غرابة في هذا الموقف، كونه يأتي متسقاً مع التهديدات الأميركية باستخدام حق النقض، في حال جرى التصويت على الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن الدولي.
وفي هذا الاتجاه أيضاً، وتبريراً لقطع التمويل الأميركي عن «اليونيسكو»؛ قالت وزارة الخارجية الأميركية، إنها أوقفت تمويلها المستحق للمنظمة بسبب قوانين أميركية تحظر تمويل أي منظمة بالأمم المتحدة تمنح العضوية الكاملة لأي جماعة لا تتمتع «بالسمات المعترف بها دوليّاً» للدولة .
ومن أجل تخطي المصاعب المالية التي تنتج عن القرار الأميركي، طالبت «اليونيسكو» أعضاءها بزيادة الدعم المالي لها، لمواجهة النقص الذي يتسبب به انقطاع التمويل الأميركي. وقد جاء ذلك في صيغة إعلان تقدمت به إيرينا بوكوفا التي تشغل وظيفة المدير العام لـ «اليونيسكو»، دعت فيه الدول الأعضاء بالمنظمة، إلى رفع مستوى تعهداتها المالية، للتعويض عن تمويل واشنطن.
وأبلغت بوكوفا، في تصريحات صحافية بمقر «اليونيسكو» بالعاصمة الفرنسية (باريس)، أن بعض الدول والحكومات أبلغت عن إمكان زيادة دعمها المالي للمنظمة، لتضاف إلى موازنتها المالية.
وأوضحت أنها تأمل ألا يتوقف الأميركيون طويلاً عن تمويلهم، لكن على المنظمة حاليّاً البحث عن كيفية سد العجز المالي قبل نهاية العام 2011.
وأكدت أن انقطاع التمويل سيترك آثاراً سلبية خطرة، من ضمنها حجب قدرة المنظمة على تحقيق تعميم التعليم على مستوى العالم، ودعم الديمقراطيات الجديدة ومحاربة التطرف.
واقع الحال أن خطورة المشكلة، لا تكمن فقط في أبعادها الاقتصادية وتأثيراتها في المنظمة، وقد تكرر السلوك الأميركي تجاه هذه المنظمة، ومنظمات دولية أخرى، ولكن أيضاً في بعده السياسي، كأحد التعابير عن فرض سياسات الهيمنة، وغياب القرار الحر والمستقل في المنظمات الدولية، دونما تأثيرات سلبية، تحد من فاعلية هذه المنظمات، وتحجب عنها القدرة على مواصلة مهماتها الإنسانية.
لقد فرضت إدارة الرئيس كارتر عقوبات على «اليونيسكو» إثر منحها منظمة التحرير الفلسطينية صفة مراقب.
وامتنعت الولايات المتحدة عن تمويل «اليونيسكو» لسنوات عدة، إلى أن أعلنت منظمة التحرير بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات تخليها عن العنف واستعدادها للاعتراف بالكيان الصهيوني، والدخول في مفاوضات مباشرة معه من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع .في الثمانينات من القرن الماضي، أثناء حقبة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وشهدت معاهد الدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة نقاشات واسعة عن الدعم المالي الذي تقدمه الولايات المتحدة للمنظمات الدولية. وكان كثيرون من أقطاب اليمين، يرون ضرورة وجود تجانس في مواقف المنظمات الدولية مع المواقف السياسية الأميركية. ويضغطون بقوة بأن يكون التجانس السياسي في المواقف شرطاً لحصول هذه المنظمات على الدعم الأميركي.
وأثير في حينه قرار «اليونيسكو» بمنح منظمة التحرير الفلسطينية صفة المراقب في اجتماعاتها. وقد عُدّ ذلك الموقف تمرداً على الموقف الرسمي الأميركي، يقتضي المعاقبة، بالطريقة التي أسلفناها. وفي حينه، أثار الموقف الأميركي جدلاً واسعاً بين دول العالم الثالث التي رأت في الموقف الأميركي، تعدياً على حقها في انتهاج خياراتها السياسية، وحرمانها من استقلالية قراراتها، وبما يضمن مصالحها الوطنية والقومية.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن حصولهم على عضوية هذه المنظمة، والموقف الأميركي من هذه الخطوة، يعدّ درساً مهماً، ودليلاً على فاعلية القرار المستقل، والابتعاد عن سياسة الاستتباع، والمراهنة على دور نزيه للوسيط الأميركي.
لقد أنجز الفلسطينيون استحقاقاً تطلعوا إليه منذ سبعينات القرن الماضي، وقدموا تضحيات كبيرة في سبيل إنجازه. وفي النهاية كان لهم ما أرادوه. وقد كشف الأميركيون مرة أخرى عن الوجه القبيح المعادي لتطلعات الشعب الفلسطيني إلى الحرية والانعتاق والاستقلال، والمساند من دون حدود وضوابط للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وليس عليهم سوى مواصلة نضالهم، من دون مساومة أو تفريط، اعتماداً على قدراتهم الذاتية ووحدتهم الوطنية، ومساندة أشقائهم العرب، والشعوب المحبة للسلام في العالم.
وستكون فرصة للفلسطينيين لوضع «اليونيسكو» أمام امتحان تاريخي، يتعلق جوهريّاً بالمهمات الثقافية والعلمية الموكلة لها.
ويأتي في مقدمة هذه المهمات حماية التراث الوطني والإنساني الفلسطيني، وفضح ومواجهة انتهاكات وسياسات الاحتلال بالقدس الشريف والضفة الغربية وقطاع غزة، من قبل الكيان الغاصب. وصيانة المواقع التاريخية وحمايتها من الاعتداءات السافرة والمتكررة من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال الصهيوني التي تعمل على طمس معالمها وإلغاء أي أثر تاريخي يربط بين الفلسطينيين، وحقهم المشروع وغير المنازع في وطنهم
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3352 - الخميس 10 نوفمبر 2011م الموافق 14 ذي الحجة 1432هـ