عرفت البحرين تاريخياً بوجود عدد كبير من العيون الطبيعية البرية والبحرية والذي ارتبط بالازدهار الحضاري الذي عاشته هذه البلاد بمياهها العذبة؛ إذ كانت هذه المياه سبباً رئيساً لاستقرار السكان الأوائل فيها. وقد استمر الإنسان القديم الذي عاش على هذه الأرض ردحاً من الزمان في تلبية الجزء الأعظم من احتياجاته المائية معتمداً بصورة أساسية على مياه العيون منذ البدايات الأولى لاستقراره وحتى مطلع العقد الثالث من القرن العشرين بعدها بدأت عملية سحب المياه بواسطة الآبار التي بدأت تحفر بصورة جنونية حتى تسببت تلك الآبار بإضعاف تدفق المياه من تلك العيون وكذلك تسببت بتلوث مياهها بمياه البحر. وبالإضافة إلى استخدام العيون كمصدر مائي فإن هذه العيون قد ارتبطت عند العامة بمعارف وثقافة، وسنتناول هنا جزءاً من تلك الثقافة والذي ارتبط بالجن والمعتقدات والأساطير.
قدسية العيون
يبدو أن للعيون في جزر البحرين مكانة خاصة منذ قديم الزمان؛ إذ تشير المكتشفات الأثرية للمواقع التي تعود إلى فترة دلمون لبناء المعابد بالقرب من عيون طبيعية كمعابد باربار ومعبد الدراز وكذلك عين أبو زيدان؛ إذ يعتقد بوجود معبد بني عليها. وقد استخدم شعب تلك الحقبة مياه هذه العيون في الاغتسال والتبرك ولتطهير أجسامهم لاعتقادهم بقدسية مياهها. ومن أهم الطقوس التي ارتبطت بالعيون هو طقس الانغماس في الماء أو الاستحمام قبل الزواج وهو طقس كان موجوداً في عدد من الثقافات القديمة؛ إذ يقوم الزوجان في اليوم السابق للزواج بالانغماس في الماء كالعيون الطبيعية أو الأنهار أو البحيرات، وقد بقي هذا الطقس حتى يومنا هذا في العديد من البلدان بمختلف دياناتها (Monger 200، p.22)، وعند اليهود في الوقت الراهن يعرف هذا الطقس باسم Mikvah. ومنذ القدم وطقس الاستحمام في العيون الطبيعية معروف في البحرين وعدد من دول الخليج العربي، وهو لايزال معروفاً في المغرب ومصر وتركيا وغيرها.
العيون الطبيعية والنذور
اشتهرت بعض العيون الطبيعية في البحرين بأنها مواضع للنذور، ومن أهم تلك العيون عين «أبو زيدان» التي تقع في البلاد القديم، وهي من العيون التي اشتهرت في الماضي القريب بأنها مكان تؤدى فيه النذور؛ إذ كانت تغص كل يوم بالمستحمين وأصحاب النذور من أغلب مناطق البحرين.
وفي بعض المناطق تعرف العين الطبيعية المهجورة أو التي ضعف ينبوعها وتوقف تقريباً وبقي فيها ماء راكد ملوث، يسمي البعض هذه العيون بعين خسيف أي العين التي أصابها الخسف وتعتبر مثل هذه العيون مسكناً للجن، وقد اشتهرت في قرية بني جمرة عين باسم عين خسيف. وفي حال أصيب شخص بمرض فإن بعض النسوة قديماً كن يقترحن كسر البيض لهذا المريض في عين خسيف كنوع من العلاج.
العيون الطبيعية والجن
تعتقد العامة في البحرين بوجود علاقة بين العيون الطبيعية والجن؛ فقد عرف عن العيون أن الجن قد تسكن بها، ولذلك أثناء عملية اغتسال المعرس أو العروس في العين يتم كسر بيضة، أو أكثر، في أماكن مختارة، وخصوصاً العين التي تتم فيها الغسالة، إرضاءً للجن، إضافة إلى تقسيم العذرة (نوع من الطعام المحضَّر خصيصاً للجن وعادة ما يكون عيش محمَّر)، وقد جرت العادة أيضاً، أنه في ليلة الدخلة توضع «العذرة» بالقرب من رأس العروسين، وتؤخذ هذه العذرة في الصباح إلى أقرب عين ماء وتلقى فيها لتبعد شر الجن عن العروسين. كذلك، ما إن يحدث أي حادث في عين من العيون كغرق أحد الأشخاص فيها مثلاً حتى يتم شياع أن هذه العين بها «جنية، وقد اشتهر عن عين عذاري أن بها جنية، ويروي لنا بلغريف في مذكراته أسطورة اشتهرت عن عين عذاري بسبب زعم العامة بوجود جنية بها، يقول بلغريف: «وعذاري لم تكن مكاناً آمناً للسباحة إلاّ لمن له القدرة على ذلك. فهناك خرافة تقول إن هذه العين لها حق على الناس، وهذا الحق هو أن يكون لها ضحية واحدة كل عام، وفي الحقيقة فإن طوال سنوات إقامتي بالبحرين (31 سنة) كنت اسمع عن غرق شخص واحد في كل صيف تقريباً منذ العام 1926 وحتى 1957».
أم الشعوم وصخرة أم حمار
من العيون القديمة المشهورة في البحرين عين أم الشعوم، وكانت هذه العين ذات مكانة خاصة بسبب وجود صخرة بالقرب منها، تعرف هذه الصخرة باسم «حَجَرَة أم حمار»، وقد كانت النساء اللاتي لم يلدن بعد يأتين إلى هذه الصخرة ويؤدين طقوساً معينة مثل كسر البيض وتقديم العذرة، وقد كتب جعفر حسن شهادة لما كان يراه عند هذه الصخرة قديماً، وذلك ضمن مقال نشر في البحرين الثقافية (العدد 49 العام 2007، ص 81):
«عندما تتكلم عن عين «أم الشعوم» إنما تستحضر تلك الطقوس المخفية لنسوة كن ينسربن في عتمة غامرة، حاملات الهدايا، ليهدهدن مهوداً لم يلدن لهن بعد، تظل نطفهن في أفق التمني، كل اكتمال للقمر، كان عيداً للحب، يسطره اشتياق للأمومة، مفعم يشعل وجه الضوء، هناك يتكسر البيض، لكل حب، ست بيضات، لكل اشتياق، شيء من الحلوى المعجونة بالزعفران، اكتناز بالفستق، وذوبان بالحرارة في السكر، لتبقى مشتعلة في ليالٍ باردات، لتدفأ فراش خاوٍ من المناغاة، ولتهرق اشتياق الأرواح على حجر التمني، قفزة وأخرى مربوطة بطقس لا يكسر إلا وانكسرت معه الأمنيات، تتوالى القفزات حتى سبع، الهمهمات والتمتمات تتناثر كوسوسات الظلمة متقنعة كالقمر، كاستدارة البطن حين يشد الرجل من ساعديه، ليظل وفياً للفراش، هناك امرأة عجوز ظلت تنتظر بعتب للقمر، وصبية يطير بها الرجاء، هنا تقف حجرة (أم حمار)، تلك الصخرة التي لو نطقت لتكلمت عن أشواق نسوة نسيهن القمر، كنت أختبئ تحت عباءة أمي لكي لا يشاهدنني أتلصص على ما لا أعرف؛ إذ تمطر الأحلام والقمر سيد السماء».
العيون البحرية و الذاكرة الشعبية
تعرف العيون البحرية باسم «الچواچب» (الكواكب) وعادة ما توجد بالقرب من جزيرة صغيرة أو فشت أو قصار (جزيرة صغيرة جداً)، وقد ارتبطت العيون البحرية أو الجزر الصغيرة المرتبطة بهذه الينابيع بالذاكرة الشعبية فبعضها يسكنها الجن وأخرى بها خطى الأولياء والأنبياء وهنا نعطي مثالين من تلك الاعتقادات.
«دوسة الرسول» و«بو كداو» في الساية
جزيرة الساية عبارة عن صخرة كبيرة غرب جزيرة المحرق مقابل البسيتين تتميز بوجود حفرة في وسطها ينبوع ماء عرف بكوكب الساية وقد كان مصدراً للماء لأهل منطقتي البسيتين ورأس رمان، ويذكر فضل العماري (العماري 2009م) أن العقل الشعبي في البحرين يربط بين هذه الجزيرة وبين زيارة خاطفة للنبي (ص) فأوجد فيها «دوسة» أي موطئ قدمه الشريفة (ص) وكذلك إبريقه وعصاه، وكان الشعب يقوم بزيارة احتفالية لها في مناسبات الفرح. وهناك أكثر من مصدر يؤكد قيام حفلات النذور على هذه الجزيرة قديماً. وقد زعمت بعض العامة وجود جني يقطن هذه الجزيرة يسمى «بو كداو» وقد اشتق اسمه من الكدو (الگدو) (الآلة الشعبية لتدخين التبغ)؛ إذ يسمع في حفرة النبع ما يشبه قرقرة الكدو وهو في الواقع الصوت الناتج عن تفريغ الهواء أثناء ظاهرتي المد والجزر. وقد اعتاد الزوار لهذه الجزيرة ترك شيء من الطعام لأبوكداو لكي يأمنوا شره.
«صنقور» في قصار جرذي
قصار هو اسم لجزيرة صغيرة تبعد قرابة ثلاثة أرباع الميل إلى الشمال الشرقي لقرية قلالي في جزيرة المحرق. ويوجد بجانب جزيرة قصار نبعان بحريان عرفا باسم جرذي أو قصار جرذي، وقد زعم بعض العامة أن هناك جنياً يدعى «صنقور» يحرس هذه المياه لذا كان الأهالي يتقرَّبون إليه بتقديم الطعام ومنهم من يتبرك به لشفاء مرضاهم أو برجاء الحمل لامرأة لم ترزق أولاداً
العدد 3348 - الأحد 06 نوفمبر 2011م الموافق 10 ذي الحجة 1432هـ