تعتبر «وثيقة الربيع العربي» التي أصدرها الأزهر الشريف في 31 أكتوبر / تشرين الأول 2011 لدعم تطلعات شعوب المنطقة نحو الحرية والانعتاق والديمقراطية وثيقة تاريخية تؤسس للعرب فرصة لا تتكرر لإعادة صوغ الخريطة السياسية على نهج إنساني له تأصيل إسلامي. فقد جاء في القرآن الكريم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد:11). وجاء في الحديث الشريف «ما كان من دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به». وخاطب الخليفة عمر بن الخطاب (رض) عمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، في الحادثة المعروفة بجلد ابنه لمتسابق قبطي سبقه في سباق الخيل. وجاء في حديثٍ للإمام علي (ع): «العدل في الغربة وطن، والظلم في الوطن غربة».
ونستطيع أن نستشهد إلى ما لا نهاية في منطلقات الإسلام المؤسسة للكرامة الإنسانية والعدل، ودور الإنسان في صون حقوقه، وإرادة التغيير والثورة على الظلم. واستناداً لهذه المبادئ وهذه الروح التي زرعها النبي محمد (ص) انطلق المسلمون العرب وهم الأفقر والأضعف ما بين الأمم المحيطة بهم حينها، وتغلبوا على أقوى إمبراطوريتين في عصرهما، وهما الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية، لينشروا الدعوة الإسلامية من الصين شرقاً حتى الأندلس غرباً.
وفي ظل الإسلام، انطلق العرب والمسلمون من الوضع الأكثر تخلفاً في الحضارة الإنسانية، حيث كانت الحضارة الصينية والفارسية والرومانية في أوج عهدها، ليندفع العرب وهم عصبة المسلمين وليتقدموا بسرعة ويحرقوا المراحل ويساهموا بتفوق في الحضارة الإنسانية. وتشهد لهم بذلك إنجازاتهم في جميع ميادين العلوم والآداب والفلسفة والعمران. كما تشهد لهم الأندلس مثلاً بالتعايش الخلاق بين معتنقي مختلف الديانات السماوية، الإسلام والمسيحية واليهودية وحتى مع أصحاب الأديان غير السماوية.
لكن هذا التقدم أضحى نكوصاً وتشرذماً بعد أن تحولت الخلافة إلى حكم عضوض وصراعات دامية فيما بين الدويلات والطوائف والسلالات الحاكمة، حتى تمزقت الدولة الإسلامية العربية وسهل بذلك غزوها واحتلالها. وظل الحال على ما هو عليه لقرون عدة، حتى بزوغ حركة التحرر العربية بعد الحرب العالمية الثانية وتحرر البلدان العربية والدعوة للوحدة والتقدم. لكن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربية الأخرى يذكرنا باستمرار الاحتلال، والكيانات المتعددة تذكرنا بالشرذمة، واحتلال الإرادة العربية تذكرنا بالهوان.
محاولات الأمة العربية للنهوض من كبوتها وإعادة وحدتها وتقدمها ودورها الحضاري عديدة، ومنها محاولة محمد علي باشا في بداية القرن التاسع عشر ومحاولة النهوض الفكري على يد أعلام التجديد مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي والشيخ عبدالرحمن الكواكبي، في بداية القرن العشرين، مقرونةً بالحركة المقاومة للدولة العثمانية ومن بعدها حركة التحرير ضد الاستعمار الغربي. ولكن بعد كل نهوض نعود للانتكاس حتى أضحى العرب موضع تندر العالم شرقه وغربه.
اليوم هناك فرصة تاريخية للعرب للخروج من النفق المظلم الذي قادتهم إليه ليس الأنظمة الاستبدادية وحدها، بل النخب الثقافية المتواطئة، والمعارضات الفاسدة، والاتكالية الشعبية. لقد انطلقت حركة التغيير في تونس حين أشعل النار بنفسه الشاب التونسي محمد البوعزيزي في مدينة بوزيد بالداخل التونسي، وبذلك أشعل النار في الهشيم العربي من المحيط إلى الخليج. ولأول مرة في تاريخ العرب ينهض المواطنون العرب على أذان التغيير الداعي لاستعادة الكرامة المهدورة والحقوق المسلوبة. إنه دلالة على الوجدان العربي الواحد، والهم العربي الواحد، والأمل العربي الواحد، كما هو الظلم والاستبداد والإهانة من قبل النظام العربي بكل تفرعاته وتجلياته.
لأول مرة ومنذ عقود يشعر العربي بالفخر ويستعيد آدميته، وتعود له الثقة بأنه ليس دونياً، وأنه مثل سائر البشر له حقوقه وعليه واجباته، وأنه يستطيع أن يساهم في الحضارة الإنسانية كما أنه دفع الدول الكبرى لتعيد حساباتها تجاه العرب، وتعيد الشعوب الأخرى نظرتها إلى العرب، وأنهم جديرون بالاحترام.
لعل أفضل ما يقدّمه العرب للعالم منذ قرون، هو إلهام الشعوب الأخرى باقتفاء أثر الربيع العربي. نعم لقد ألهم الربيع العربي، والذي أشعله الشباب العربي، شباب الغرب بالنهوض مجدداً ضد الرأسمالية المتوحشة والعولمة المتغولة. ذلك يحدث في ظل أزمة الرأسمالية التي لا سابق لها والتي ابتدأت في الولايات المتحدة في آخر ولاية جورج بوش الابن في نهاية 2009 عندما انهارت العديد من البنوك على إثر أزمة الرهن العقاري.
وعلى رغم وصول رئيس جديد، زعيم الحزب الديمقراطي المنافس أوباما للرئاسة ويحمل معه خطة إنقاذ للاقتصاد الأميركي، إلا أن الاقتصاد الأميركي ظل يتراجع والبطالة في ارتفاع، على رغم ضخ أكثر من تريليون من أموال دافعي الضرائب الأميركيين. ثم عبرت الأزمة المحيط الأطلسي لما بين الاقتصادين الأميركي والأوروبي من تداخل في ظل عولمة الرأسمالية، وهكذا برزت ثم تفاقمت الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو بدءاً من اليونان وعنوانها العجوزات الكبيرة في دخل الدولة وإنفاقها، وتهدد الأزمة باجتياح بلدان أوروبية أخرى مثل البرتغال وأسبانيا وإيطاليا.
فجأة أضحى ميدان التحرير نموذجاً للاعتصام في ساحات عديدة في عدة مدن غربية، بدأها الاسبان فاحتلوا ساحة «سانت كروز» في مدريد وساحة أخرى في برشلونة، وتبعهم اليونانيون مهد الديمقراطية والحضارة الإنسانية وضحية العولمة المتوحشة، فاعتصموا في ميدان «سانتجاما» في مواجهة البرلمان. ثم عبرت الاحتجاجات المحيط الأطلسي، لتنطلق من نيويورك عاصمة المال الأميركي حيث الدعوة لاحتلال شارع «وول ستريت»، رمز الرأسمالية الأميركية وقدس أقداسها ومركز بورصتها الشهيرة وبنوكها العملاقة. ومن نيويورك انطلقت موجة الاحتجاج والاعتصام إلى واشنطن العاصمة حيث مقر السلطة الأميركية فاعتصموا أمام البيت الأبيض وتظاهروا أمام البنك الفيدرالي، وشعارهم «روبن هود على حق، 1 في المئة يملكون ما يملكه 90 في المئة. افرضوا الضرائب على البنوك والبورصة، أعيدوا للشعب الأميركي ثروته المنهوبة.
بعد ذلك انتشرت المظاهرات والاعتصامات والمسيرات على امتداد العالم الرأسمالي في لندن وبرلين، وباريس وروما وميلانو ونيودلهي. وكما أضحى يوم الجمعة موعد انطلاق المسيرات الجماهيرية العربية فقد أضحى يوم الأحد يوم المسيرات في العديد من مدن العالم. ولكل جمعة شعارها وهدفها، كما أضحى لكل مسيرة في مدن البلدان الرأسمالية شعارها وهدفها.
الحركة تكبر وتتسع ككرة الثلج وتكتسب عالمية الطابع والأهداف المشتركة مع خصوصيات كل بلد. إنها ثورة ضد الرأسمالية المتوحشة في طورها المعولم. الرأسمالية التي قال عنها فيلسوفها فوكو ياما «أنها نهاية التاريخ» بعد أن ألحقت الهزيمة بالمعسكر الاشتراكي وأخضعت العالم، والذي أضحى سوقاً واحدة، تتناهبه الكارتيلات العملاقة. ها هي الشعوب تنهض من جديد ليس لبناء الاشتراكية ولكن لاستعادة الكرامة والديمقراطية الحقيقية وليس الديمقراطية المزيفة، والعدالة الاجتماعية، وإعادة الشعوب إلى مصدر السلطة والقرار وليس النخب الممثلة للاحتكارات.
وإذا كان أمام الربيع العربي شوط طويل، وإذا كانت الآمال لم تتحقق في أكثر من بلد عربي، وإذا كانت الدماء قد أسيلت غزيرة في وجه انتفاضات سلمية، وإذا كان نهوض أكثر من شعب عربي قد أجهض، فإنها قد وضعت حداً لنهاية عقود من الإذعان والخضوع. كما أن العالم قد دخل مرحلة جديدة بفضل نهوض العرب. وقد شخص محافظ البنك المركزي الأوروبي أزمة أوروبا بأنها أخطر أزمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الوطن العربي أفضل بالتأكيد في ظل الربيع العربي ووعود الربيع العربي... والعالم أفضل في ظل انتفاضات الغاضبين
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3346 - الجمعة 04 نوفمبر 2011م الموافق 08 ذي الحجة 1432هـ
شامل
شكراُ للكاتب المبدع المحترم على مقاله الشامل لربيع الثورات العربية وربطه بالثورات العالمية القادمة لتغيير خارطة الانظمة الشمولية السياسية ، الاجتماعية والاقتصادية الظالمة المستبعدة لكرامة شعوبها ومستعبدة كل طاقاتها الروحية والمعنوية والمادية أيضاُ!!!.
الله يرحمهم
رحمة الله على جميع شهداء الانتفاضات العربيه والاسلاميه
لكن هذا التقدم أضحى نكوصاً وتشرذماً بعد أن تحولت الخلافة إلى حكم عضوض وصراعات دامية
فيما بين الدويلات والطوائف والسلالات الحاكمة، حتى تمزقت الدولة الإسلامية العربية وسهل بذلك غزوها واحتلالها. وظل الحال على ما هو عليه لقرون عدة، حتى بزوغ حركة التحرر العربية بعد الحرب العالمية الثانية وتحرر البلدان العربية والدعوة للوحدة والتقدم. لكن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربية الأخرى يذكرنا باستمرار الاحتلال، والكيانات المتعددة تذكرنا بالشرذمة، واحتلال الإرادة العربية تذكرنا بالهوان.
يبو حسن الله ايقويك مع انك بخيل ادبيا مقل علينا
ان صحت تسميه هذا الربيع فانه ربيع العرب الاحرار والتغيير ات ات لكل العرب فلمنظومه كخرز السبحه المسئله مسئله وقت وتنخرط باقي خرز السبحه خل العالم يخلص من ضبي صنعاء وايقول اجدادك اذا شفت النار في جارك احسبها في احضارك وهذا مانشف ريق كل من جاور البلدان التى ثارت شعوبها على حكامها والتنبئات تشير الى دوله عربيه افريقيه تطوقها الثوارات من الجانبين والله اعلم