العدد 3341 - الأحد 30 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ

السوق الحرة والمنظومة القيمية: علاقة جدلية

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

تعتبر العلاقة بين السوق الحرة والأخلاق علاقة جدلية، ورغم أنّ الجميع يدرك أنّ كلاهما يرتبط بالآخر، تبقى الإجابة على هذا السؤال: من يؤثّر في الآخر؟ وكيف؟ هل السوق الحرة تؤثر في الأخلاق فتقوي المنظومة القيمية أم تساعد على تقويضها؟ أم أنّ وجود منظومة أخلاقية أو عدم وجودها هو الذي يؤثر في إيجاد سوق أخلاقية أو غير أخلاقية؟

على عكس الانطباع العام السائد، فإن السوق الحرّة ليست حرّة بالمطلق ولا يجب أن تكون كذلك أصلاً، فهناك قواعد وأنظمة وقوانين وضوابط تحكم سيرها. ورغم ذلك، فإن طبيعة عمل السوق الحرة بشكلها الحالي تشجع وتكافئ على الجرأة المقاولتيّة والرغبة في المضاربة والمقامرة والقدرة على اغتنام الفرص، وبالمقابل تقوّض من الصفات التي من المفترض أنها أخلاقية ومحمودة في المعيار العام مثل الحذر والتوفير والقدرة على الصبر لأن هذه المميزات لا تؤدي إلى النجاح إذا ما أريد تطبيقها في السوق.

في هذه الحالة تؤثر السوق الحرة على الأخلاق بشكل سلبي، وهي تدفع من يتمسك بقيمه الأخلاقية إلى الانهيار أثناء المنافسة أو تضطره لتغيير هذه القيم على قاعدة «إذا كان غيري يفعل ذلك وينجح، فلماذا لا أفعل ذلك أيضاً؟». وفي المقابل يمكن القول أنّ السوق لم تأتِ من فراغ وإنما هي تعبير عن علاقة بين المتنافسين وبينهم وبين العميل والمؤسسات والقوانين التي تنظم عملهم فالسوق في نهاية المطاف نظام سوسيو-اقتصادي، تؤثر به بالضرورة الأخلاق والقيم التي تتحلى البيئة التي انبثق عنها هذا النظام. ولمّا كانت المفاهيم الأخلاقية متغيرة بين مجتمع وآخر والالتزام بها أمراً نسبياً أيضاً بين فرد وآخر داخل المجتمع نفسه، فقد كان هناك حاجة إلى تأطير عام لها بما يتناسب وعالمية السوق الحرة.

وعلى هذا الأساس وجدت القواعد والقوانين التي تنظم عمل السوق، وأصبحت تجارة الرق مثلاً ممنوعة، وتجارة الأطفال والجنس والمخدرات والأسلحة (سوق سوداء) وتبييض الأموال...إلخ. لكن المشكلة أنّ هذه القواعد والقوانين التي من المفترض أنها تأتي لتسد الثغرة حيثما تضعف القيم الأخلاقية في مواجهة الإغراءات والعوامل التي يفرضها التنافس في السوق الحرة، غير نافذة بذاتها وإنما ترتبط بالمؤسسات التي تملك مهمة الإشراف على تطبيقها. هذا الارتباط ما لم يكن مصحوباً بإشراف دقيق وصارم ومنظومة قيم الشفافية والمحاسبة والعقاب، فإنه يتحول إلى باب لتسهيل وتسريع انهيار القيم الأخلاقية وبالتالي ضوابط عمل السوق الحرة وهنا نعود إلى المربع الأول.

فرغم وجود قوانين، فإن التجارة الممنوعة رائجة جداً على مستوى العالم ووصلت إلى مستويات مخيفة وبمساعدة العولمة التي تسهل مثل هذه التجارة. ورغم وجود قوانين بالسوق الحرة، فقد تبين في الأزمة العالمية الأخيرة حجم التلاعب في البيانات المالية للشركات والمؤسسات سواءً لتفادي الضرائب أو لإظهار تحقيق نمو غير موجود إلى جانب فضائح تعويضات المدراء التنفيذيين الخيالية والرشا لتسهيل تمرير الصفقات وتعديل القوانين وغض النظر عن المخالفات ناهيك عن التعاملات غير الأخلاقية أو الشرعية لاسيما في العمل المصرفي وما يرتبط به.

والحقيقة أنّ البيئة التي أوجدت السوق الحرة هي بيئة غير أخلاقية إلى حد كبير، والحاصل أنّ سلبيات هذه البيئة تنتقل للسوق الحرة وطريقة عملها. فعندما يكون الربح السريع وبأي ثمن هو المعيار الأساس، وعندما لا تطبق القوانين أو يتغاضي عنها تنهار القيم الأخلاقية. وعليه يمكن للبعض أن يجادل بأنّ العلّة ليست في السوق الحرة بحد ذاتها، فالسكين مجرد وسيلة، وكونها شيئاً إيجابياً أم سلبياً يعتمد على طريقة استخدامها ومن يستخدمها ولأي غرض، فالحكم يرتبط بالمستخدم وليس بالسكين نفسه.

معظم الذين يمجدون السوق الحرة بعلاتها وبشكلها الحالي إنما يصلون إلى هذا الاستنتاج من خلال مقارنتها بالنموذج الاشتراكي الفاشل وبالتخطيط المركزي الجامد حيث كان النظام يسلب المرء مبادرته الفردية ويحرمه من أي حوافز لتحقيق صالح عام مفترض، فيما يتجاهلون أنّ السوق الحرة بشكلها اليوم إنما لا تأخذ بعين الاعتبار الصالح العام إلا بشكل عَرَضِي وتغذي بالمقابل نزعة الجشع والطمع والغش والتلاعب والمقامرة وتطلق العنان للنزعة الشريرة للفرد دون ضوابط. أمّا الذين يرفضون فكرة السوق الحرة من أساسها فهم يرفضونها بناءً على تصور طوباوي مثالي يفترض أن الناس جميعاً يجب أن تكون متساوية في الثروة. صحيح أنّ السوق الحرّة تعمق بشكل مخيف الفجوة بين الفقراء والأغنياء لكن ذلك لا يتم حله باعتماد النموذج الاشتراكي، ولا ننسى أنّ اتساع الفجوة يعزز بدوره الانهيار الاجتماعي بقضائه على الطبقة الوسطى التي هي عماد أي مجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.

في العام 2007، قدّم الاقتصادي «توم بالمر»بحثاً مثيراً بعنوان «عشرون خرافة حول الأسواق الحرة» يدافع في جزء كبير منه عن منطق السوق الحرة ضد الانتقادات الأخلاقية والاقتصادية التي تتناول هذه السوق. القارئ للنقد اليوم يستطيع أن يرى أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية نسفت كل الحجج المضادة التي قيلت للدفاع عن السوق الحرة.

أدّت الأزمة المالية العالمية التي تحولت فيما بعد لأزمة اقتصادية إلى فتح المجال واسعاً للانتقادات، وعاد النقاش من جديد حول دور الدولة في الاقتصاد والمفاهيم المتعلقة بسميث وكينز سواء لناحية دور الأخلاق في الاقتصاد أو لناحية نطاق تدخل الدولة فيه. وتوصلت معظم النقاشات إلى ضرورة إحداث تغيير في النظام الحالي غير الأخلاقي وغير المتوازن، كما طرح البعض فكرة إمكان الاستفادة من نماذج اقتصادية مغايرة في عدد من القطاعات كالقطاع المصرفي (صدرت الكثير من الدعوات من قبل باحثين اقتصاديين غربيين وأيضاً من قبل مؤسسات حكومية بعضها فرنسي وأميركي إلى ضرورة دراسة النظام الاقتصادي الإسلامي وخاصة الناظم المصرفي).

لقد تبيّن أنّ الأزمة لم تأتِ من فراغ، وقد كان لغياب العنصرين الأساسيين الضابطين للسوق وهما (الأخلاق وتطبيق القوانين) دور كبير في استفحال المشكلة، ولأننا في عصر العولمة، فكما يمكن للعنصر الإيجابي أن ينتشر بأسرع وقت وأقل كلفة، فإن العنصر السلبي ينشر بشكل أسرع ما يجعل الكلفة أكبر، وهو ما يفسر تحول الأزمة سريعاً من أزمة مالية مركزها الولايات المتّحدة إلى أزمة اقتصادية تضرب العالم بأسره.

خلاصة القول إنّ هناك ترابطاً بلا شك بين السوق ومنظومة القيم والأخلاق يتأثر ويؤّثر كل منهما في الآخر، وبقدر ما تكون السوق مرتكزة على قيم أخلاقية وتأخذ بعين الاعتبار ما هو أبعد من مجرد الكسب السريع للمال بأي ثمن بقدر ما تنجح، وبقدر ما تتفلّت من هذه القيم في المقابل لتغذي النزعات الفردية بشكل مطلق بقدر ما تتجاوز كل الخطوط الحمر وتفشل. وهناك يأتي دور الأنظمة والقوانين ليس فقط من أجل ضمان حسن سير الإطار العام للسوق الحرة وإنما لضمان الجانب الأخلاقي وبما يحقق التوازن بين المثالية والانتهازية وبين العام والخاص

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 3341 - الأحد 30 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً