العدد 3341 - الأحد 30 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ

السياسي وكبسة زر يوم القيامة الأرضي

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في السياسة يختلط الخاص بالعام، والنسبي بالمطلق، والأبيض بالأسود. وأنا من المقتنعين بأن السياسة في جانب كبير من مساحتها لا أخلاق لها؛ كما هو اقتناعي بأن قليلاً وندرة من السياسيين من لديهم الحرص على جزء من أخلاقهم، ولو حرصوا عليها جميعاً لما كانوا مشتغلين بالسياسة.

لا سياسي مسئولاً اليوم عن إدارة ملف وهو تحت مرمى الكاميرات والوثائق والتصريحات - إلا ما ندر - سيلتفت إلى أن الكذب قبيح. لا مكان لتلك القاعدة لديه. القاعدة التي تمرر قناعتك لوسائل الانتشار ولو كنت غير مقتنع بها، ولو كنت كاذباً.

بعض السياسيين خارج هذه الرؤية والتصنيف، وخصوصاً في الدول التي تتعامل مع شعوبها وشعوب العالم بمعايير أخلاقية لا تتعارض مع العمل السياسي المتزن والمسئول، وهم بذلك لا يشتغلون في السياسة ضمن أطرها ونظمها ولا أخلاقياتها ووافر الكذب فيها. إنهم مشدودون إلى الأخلاق بالتوازي مع انشدادهم للعمل السياسي. قد يناورون ولكن بميزان ومعايير لا تشذ بهم عن جادة تلك الأخلاق. صحيح أنهم نادرون؛ ولكنهم موجودون وإن لم يكونوا بالسطوة والتأثير والانتشار الذي يتمتع به المناقضون لهم في الوجهة والتوجه.

يدلي السياسي بتصريحه في ثوانٍ؛ أو ربما دقائق معدودة، تصريحه الذي لا يخلو من تهديد ووعيد؛ ولكنه قد يكلف البشر سنوات من الخسف والحروب والمجاعات والخروج من الطور البشري إلى ما قبل تشكل الاجتماع الإنساني. فوضى وغلبة ذي السطوة والقوة على ما لا سطوة وقوة له. ينتهي التصريح، وينفض السامر. يقلع بطائرته أو مركبته، يأوي إلى النوم لتعقبه (التصريح) إما حرب أو ما يدل على نذرها. أدى ما أوكل إليه ضمن مساحة الكلام، وعلى الآلة العسكرية أن تكمل بقية النص والتصريح؛ لكنه تصريح وظيفته الفناء والخراب، ولن يصغي لذلك التصريح إلا من كتبوا في عداد الأحياء؛ أو هم مشاريع موتى في مراحل مقبلة.

ثم لاحظوا أن السياسيين في عالمنا العربي، يشعلون الفتن والحروب والقلاقل إما بحماقة الارتجال في تصريحاتهم، وإما أنهم في الأساس مشاريع حروب ووكلاء لها. ولاحظوا أيضاً، أن الوساطات والحوار لا يحضران إلا بعد حلول واستتباب الكارثة. لا وساطة ولا حوار قبل الدخان والجثث والدمار. لكأن كل ذلك يفتح شهية أن يعود الإنسان إلى عقله بشكل مؤقت استعداداً لاستئناف فتن وحروب مقبلة.

ولاحظوا مرة ثالثة أن ثقافة الاعتذار لدى السياسيين - أقول بعضهم - هي الأخرى نادرة ولا تتسق مع اليقين في صواب الهدف والتوجه والرؤية لديهم. وحتى حين يبرز اعتذار - في الكوارث والتجاوزات تحديداً - لن تخلو لغة الاعتذار من، لولا، لكن، كنا، اعتقدنا، ليت، لعل، وكل ما يدفع ويسبب العلل لدى متلقي نص الاعتذار الطارئ والمتحفظ في مجمل أحواله؛ لأن الاعتذار إذ يبرز نقياً وصادقاً يمكن احتواء الخلاف وتجاوزه؛ فيما لدى بعض السياسيين لا يأتي إلا متأخراً ومرغماً بعد طوفان من الدماء والكوارث وخراب أكثر من بصرة.

لا تحامل في الأمر. إنه واقع العالم اليوم عموماً، وعالمنا العربي خصوصاً، الذي يراد له أن يحيا ويموت بخريفه الملعون، وكل ربيع يتجرأ عليه سيكون مرتبطاً بعناصر ودول خارجية! من الدول التي لديها كبسة زر يوم القيامة الأرضية إلى الدول التي تعيش على المعونات والاقتراض ومزاحمة القطاع الخاص في مشروعاته وموارده. السياسي هناك في أخلاقه ودوافعه ونوازعه وتسييره الآلي هو هنا بالقرب من حدودنا أو حتى في حدودنا.

ولا يتوقعن أحد من سياسة أو بعض سياسيين ركنوا الأخلاق جانبا وتعاملوا بآليات الوصول إلى الغايات بغض النظر عن الوسائل، من خلال منافذ التوصيل ونصوصها أن يتحولوا إلى مرشدين دينيين أو روحيين أو حتى سياحيين. لا مكان لكل ذلك في طبيعة آلية النصوص وقناعات وتوجه يرى أنه مصدر الحقيقة في الاقتصاد والاجتماع والتربية والأخلاق والقيم، يوجهها ويفسرها كيفما وأنى شاء، وإن لم يقتنع المحيط الذي يمثله ويتحدث باسمه أو على خلاف معه، فالآلة كفيلة باختزال زمن وطريقة إيصال تلك القناعة إليه ولو على أكوام من الجثث.

لم يفقد البشر ثقتهم بالسياسة كعلم وخبرة تنظم حياتهم وتوصل إليهم حقوقهم وتجعلهم في مواضع احترام لحقوق غيرهم؛ بل على العكس؛ زادهم الكذب والتورية والخديعة والمماطلة والمكر من حولهم تحصيناً لذواتهم ووعيهم وخياراتهم، وفي الوقت نفسه زادهم بعداً ووحشة وعدم ثقة بالذين يتعاطون السياسة بالنقيض مما يطمحون إليه وبالأساليب التي تفصلهم عن قيمتهم كبشر. ينأون بأنفسهم عن الذين صار هذا العالم بممارساتهم مسرحاً للقلاقل والعذابات والتصفيات والدمار على أكثر من مستوى وفي صور شتى.

لا كائن يريد رصد حقوقه والوقوف عليها في الوسط الذي يحيا فيه بمعزل عن السياسة في جانب إدارتها لشئون الحياة بمعايير أخلاقية، ولكنه ارتباط يتقصى الحقوق لا القفز عليها والتحايل على تغييبها والتحدث باسمها؛ فيما هي في دائرة العدم أو متاخمة له.

ولو أن السياسة توجهت بصدق إلى الاقتصاد لما تم اللجوء إلى أساليب وخطط الترقيع والتسول، ولو أنها توجهت بصدق إلى الاجتماع لما احتاجت إلى شراء ذمم وإسكات أفواه، ولو أنها توجهت بصدق في تثبيت الحقوق وتأكيد الواجبات لما احتاجت إلى أن تتجاوز وتطغى وتناور.

لا تعميم في الأمر؛ لكن بعض السياسيين بممارساتهم، وأحياناً حماقاتهم وتصريحاتهم، يضعون أصابعهم على زر قيامة أرضية مبكرة، لن تكون بالطبع نزهة وحفل عرس

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3341 - الأحد 30 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:29 م

      مستعملاً آلة الدين للدنيا

      ما أقبح هؤلاء الصنف من السياسييين

      الذين يستعملون آلة الدين للدنيا(كما وصفهم أمير المؤمنين ع)

    • زائر 1 | 12:47 ص

      نعم يا جمري لن تكون نزهه او حفله عرس

      اتمنى على اولوا الامر الانتباه والتحرك الجدي قبل ان يشق الفاس الراس بعدين حتى وان خيطه امهر جراح بتبقى اثار الغرز اضحه وكلما لامستها الايدي ستنزف مره اخرى انها الجروح الابديه التى لا تلتئم بعامل الوقت والتقادم تؤرث من الجد الى الوالد ومن الابن الى الحفيد اخمدو الفتنه في مهدها نحوا المنافقين تجار المصائب والفتن يرحمكم الله رافتا باوال واحبابها لا تنظروا الوقت الضائع لانه قصير لا يككفي لمراجعه الامر قبل اعتمادها

اقرأ ايضاً